معلومات البحث الكاملة في مستودع بيانات الجامعة

عنوان البحث(Papers / Research Title)


الأُصولُ الرومانسيَّةُ في الشِعرِ الجَاهليِّ [شعر التأمُّل]


الناشر \ المحرر \ الكاتب (Author / Editor / Publisher)

 
حسن دخيل عباس الطائي

Citation Information


حسن,دخيل,عباس,الطائي ,الأُصولُ الرومانسيَّةُ في الشِعرِ الجَاهليِّ [شعر التأمُّل] , Time 6/5/2011 7:12:45 PM : كلية التربية للعلوم الانسانية

وصف الابستركت (Abstract)


عُرِفَ عن الشِعْرِ الجاهِلِيِّ، بأنَّهُ شِعْرٌ واقِعِيٌّ،

الوصف الكامل (Full Abstract)

 المقدمة     عُرِفَ عن الشِعْرِ الجاهِلِيِّ، بأنَّهُ شِعْرٌ واقِعِيٌّ، عُنِيَ بِتَصويرِ الواقعِ في العَصْرِ الجاهلي، وما يَضطَرِبُ به هذا الواقعُ، من أحداثٍ وصِراعاتٍ؛ فقد كُرِّسَ معظمُ هذا الشِعْرِ، لِلذَودِ عَنِ القبيلةِ، وإلى نَشْرِ مَفاخِرِها، والتغنِّي بانتصاراتِها، علاوة على تناولِهِ بعض جوانب الحياة الاجتماعية، مثل تصويره لِبَعْضِ أنماط مَعيشة الناس في تلك الحقبة، التي اتَّسمت بضَنَكِ العيش، وسوءِ الأحوال المعيشيَّة بسبب قلَّةِ المواردِ في تلك البيئة الصحراويَّة، فكان الجوعُ يضربُ أطنابَهُ في طول الصحراء وعَرضِها، وضاق الناسُ به ذرعًا، ونجمَ عن ذلك ظواهر اجتماعيَّةٌ مُدانةٌ، منها وَأْدُ البنات، والسلبُ، والنهبُ بين القبائل لكلِّ ما تطالُهُ أيديهِم في أثناء الغزوات التي دارت بينهم في ذلك العصر، فضلاً عمَّا قام به الصعاليكُ، من أعمالِ السَطْوِ، والنَهْبِ، واعتراضِ سبيلِ القوافلِ، وسرقةِ ما يمكنُ سرقتُهُ، ونجدُ ذلك واضحًا في شِعْرِ الصعاليك؛ وفي ضوءِ ما تقدَّمَ كان الشعرُ الجاهليُّ، صورةً صادقةً لِمُجتَمَعِهِ، وكادَ يكونَ وثيقةً تاريخيَّةً، تحكي حقيقةَ ذلك المجتمعِ، وكانت شخصيَّةُ الشاعر تذوبُ في إطار الجماعة، وهو يتناول هذه الموضوعات .
 
         
       غيرَ أنَّ تلك الأوضاعَ المُزريةَ من حُروبٍ، وقتلٍ، واضطرابٍ كان فيها الإنسانُ لا يأمنُ على نفسِهِ، ولا على مالِهِ، في مجتمعٍ يُعاني من الفقر المُدقع الذي يصلُ في كثيرٍ من السنين إلى درجة المجاعة، علاوة على ما تبعثُهُ هذه الصحراءُ القاحلةُ المُمحِلَةُ المُمْتدَّةُ على طول البصر، من وحشةٍ، وخوفٍ في نفوسِ أبنائها الذين لا يعرفونَ ما تُخبِّئُهُ لهم، فضلاً على ما يلفُّها من غُموضٍ؛ ذلك كلُّه جعل طائفة من شعراء العصر الجاهلي، تصطبغُ نفوسُهُم بالحزنِ، وتستولي عليها الكآبة، وكان ذلك سببًا في ظهور هذا الضرب من الشعر، وهذا ما جعل الشاعرُ الجاهليُّ يُخصِّصُ جزءًا مِنْ شِعرِهِ؛ لِيُعبِّرَ عن همومِهِ الذاتيَّة، وعمَّا تختلجُ به نفسُهُ من مشاعرَ وأحاسيسَ نحو الحياة والموت، والطبيعة، فجاء هذا الشعرُ ذاتيًَّا بكُلِّ ما تحملُهُ هذه الكلمة؛ فقد سجَّلَ فيه الشاعرُ الجاهليُّ ما يخطُرُ على بالِهِ، من مشاعرَ وأحاسيس نحو النفسِ الإنسانيَّةِ، والوجود. وهو يختلفُ عن الشعر الواقعيِّ الذي عُنِيَ بالحديث عن السيوف، والخيول، والكرِّ والفرِّ، وما ينجُمُ عن هذه الحروب من مآسٍ، وويلات، وما يُحرَزُ من انتصارات، أو ما يقومُ به الصعلوك، من مغامراتٍ، وحِيَلٍ من أجلِ أن ينتزعَ لقمةَ عيشِهِ.  
         وتناولَ البحثُ أبرزَ الموضوعات التي دار عليها هذا اللون من الشعر، وهي التأمُّلُ في الحياة والموت، والخير والشر، والشباب والمشيب، والطبيعة؛ فقد حاول هؤلاء الشعراء التعمُّقَ  في أسرارِ هذه الموضوعات، ومعرفة أسرارها، وكنهها، غير أنَّهم رجعوا ناكصين، فلم يقفوا إلا عند ظواهرها، فلم يشفوا غُلَّةَ نفوسهم الظمأى لمعرفة المجهول، فظلَّ الموتُ شبحًا يُلاحقُهم، اضطرَّهم في النهاية إلى الاستسلام لإرادتِهِ، والتسليمِ بما تكتبُهُ لهم الأقدار، وكذلك في الموضوعات الأخرى وقف الشاعرُ الجاهليُّ عند حدودِ ما اكتسبه من الحياة، في أثناء تجربته التي عاش فيها، فعلَّلَ مثل هذه الظواهرِ بما يمتلكُهُ من تجربةٍ، وما توافرَ له من ثقافةٍ ومُعتقداتٍ، لذلك أطلقنا على هذا الضرب من الشعر: الأصول الأولى للاتجاه الرومانسي، ولم نقُل الاتجاه الرومانسي؛ لأنَّ الشاعرَ الجاهليَّ، لم يتعمَّقْ في الأشياء، ولم يُعبِّرْ عن مشاعرَ، وأحاسيسَ، وعواطفَ تتَّسمُ بالنُضْجِ، كما كان يفعلُ الشاعرُ الرومانسي في العصر الحديث، يُزاد على ذلك أنَّ هذا الشعرَ يشبهُ الشعرَ الرومانسيَّ في كونِ صاحبِهِ يُعنى بالتغنِّي بآلامِهِ، وأحزانِهِ، ويُعبِّرُ عمَّا يُعانيهِ من اضطرابٍ، وقلقٍ، ويأسٍ في هذه الحياة، فضلاً عن أنَّ بعض الشعراء، سجَّلوا سبقًا في الميدان الرومانسي، فمن الشعراء من وقف على القبور، وسجَّلَ خواطرَهُ مثل عديِّ بنِ زيد العبادي، وهو بعملِهِ هذا سبَقَ شعراء مدرسة القبور البريطانيَّة الحديثة الذين كانوا يقفونَ ليلاً في المقبرةِ، ويُسجِّلونَ خواطرَهم، كذلك نظمَ بعضُ الشعراء في العصر الجاهليِّ خواطرَهم، ومشاعرَهم بقصيدةٍ ذات أداءٍ قَصَصِيٍّ صَوَّروا فيها مشاعرَهم نحو الحياة والموت، وما يُلاقيه الإنسانُ في الحياةِ الأخرى بقصائد ذات نزعةٍ خياليَّةٍ زاخرةٍ بمشاعرِ الخوف، والرهبة، والقلق، مثل أميَّة بن أبي الصلت. وبهذا يكونُ هؤلاء الشعراء قد سبقوا شعراء الرومانسية الحديثة الذين نظموا كثيرًا من مشاعرهم، في قصائدَ تشبهُ شعر الأقصوصة، ويُعدُّ ذلك واضحًا في شعر جماعة الديوان، وأبولو.  
    وظهر هذا الاتجاهُ الرومانسيُّ، جليًَّا، في الخيال، فقد جاء أصحابُهُ، بصُوَرٍ شعريَّةٍ، تُثيرُ التأمُّلَ، وتبعثُ مشاعرَ وعواطفَ شتَّى، في نفوس مُتلقِّيها، ولا تحفلُ هذه الصورُ الفنيَّةُ بالتشبيهات الحِسِّيَّة، أو المادِّية، بل تُعنى بالتشبيه الذي يستطيعُ الشاعرُ، أن ينقُلَ إلى المُتلقِّي، خلاصةَ ما استودعَ في ذهنِهِ من مشاعرَ، وعواطفَ، لا أن يتسابقَ في ميدان الألوانِ، والأحجام، والأشكال، فإنَّ مثلَ هذه الصورِ التي تحفلُ بالمحسوسات، يتساوى فيها الشاعرُ، مع خيال الإنسان العادي، وإنَّ مثلَ هذه الآراء في الخيال، دعا إليها الرومانسيُّونَ المُحدثونَ، ووجدناها مُجسَّدةً في شعرِ هؤلاء الشعراء في العصر الجاهليِّ، فصُوَرُهُم الشعريَّةُ زاخرةٌ بالمشاعرِ والعواطف.  
   وخلاصةُ ما أريدُ قولَهُ، أنَّ هذا البحثَ يُسلِّطُ الضوءَ على هذا الاتجاهِ الشعريِّ الوليد، الذي لم يبلغْ مرحلةَ النضج، غيرَ أنَّهُ يكتسبُ أهميَّةً، في كونِهِ بدايةً رائدةً لمدرسةٍ شعريَّةٍ أصبحَ لها شأنٌ في العصر الحديث، وكان له الفضلُ في إغناء تجربة الشعراء العرب الرومانسيين، علاوة على أنَّ هذا الاتجاه عمل على التمهيد لنشوء شعر الغزل العذري، وشعر الزهد، والشعر الصوفيِّ، وغيره من أنواع الشعر ذات الاتجاهِ الذاتي، الذي يُعنى بتصوير المشاعر والعواطف.  
 الشعرُ التأمُّلي  
      نظمَ الشاعرُ الجاهليُّ شعرًا تأمُّلِيًَّا، يُشبِهُ في كثيرٍ من الأحيان الشعرَ الذي نظمهُ الرومانسيُّونَ في موضوعات التأمُّلِ في الطبيعةِ، ومظاهرِ الكونِ، والحياةِ والموتِ، والنفسِ الإنسانيَّةِ، وحاول أن يتعمَّقَ في جوهرِ الأشياء، لعلَّهُ يُدرِكُ كُنهَها، ويعرفُ أسرارَها، ليُشبِعَ نهمَهُ من معرفة خفايا الكون، وليحلَّ رموز الغموض التي تُحيطُ بعالمِهِ الذي يعيشُ فيه؛ لأنَّ مثلَ تلك المشاعر التي يحُسُّ بها الشاعر الجاهلي كانت سببًا في تشاؤمِهِ وحُزنِهِ وقلَقِهِ في هذه الحياة، وكذلك فإنَّ مبعثَ القلقِ عند الشاعرِ الجاهليِّ، وُجودُهُ في بيئةٍ صحراويَّةٍ مُتراميةِ الأطرافِ يلفُّها الغموضُ، إذ يمتدُّ فيها بصرُ الإنسان مسافاتٍ طويلةً من دون أن يعرفَ ما وراءَ تلك البحار الرمليَّة، بل المحيطات، من أمواجِ الرمال التي تُكوِّنُ الصحراء وما تنطوي عليه من أشياء؛ فإنَّ مثلَ هذا المنظر  
      نفسِ الشاعرِ الجاهليِّ؛ لما تُخبِّئُهُ هذه المتاهاتُ السحيقةُ من أسرارٍ وخفاياً، ممَّا جعلَ هذه الصحراءَ لا تخلو من وحشةٍ ((فإنَّ العربيَّ لم يبرأْ من الشعورِ بوحشتِها ورهبتِها، ممَّا جعلَهُ يتصوَّرُ فيها ما لا أصلَ له، ويتخيَّلُ فيها ما لا حقيقةَ له، فاعتقدَ أنَّها مسكنُ الجنِّ، ويرى شخوصَ الغيلان))([1])، ويمكننا أن نلمسَ ما قُلناهُ في بيت الشاعر الأعشى، وهو يصفُ الصحراء:      بلدةٍ مثلِ ظهْرِ التُرْسِ موحِشَةٍ

 
للجِنِّ بالليلِ في حافاتِها زَجَلُ  
لا يتمنَّى لها بالقيظ يركبُها
 
إلا الذين لهم فيما أتوا مهلُ([2])    
     ويبدو واضحًا أنَّهُ ((شبَّهَ الصحراءَ بظهرِ الدِرْع في انبساطها، وإقفارها؛ لأنَّها لا شيءَ فوقَ ظهرِها...جردت أرضُها وعريت صفحتها، تسمعُ للجنِّ بها أصواتًا وجلجلةً، وهو أخوفُ ما يخشاهُ قاطع الصحراء أو بتخيُّلِهِ، إذا تفرَّدَ فيها، وإنَّ هذه الصحراء المنبسطة، واللاهبة، لا يسمو إلى ركوبها، إلا الذين لهم فيما أتوا عُدَّةً، وقُوَّةً، لشدَّتها، وامتلكوا الهداية والمعرفة بدروبها، وشعابها))([3])، وممَّا زاد من خشية الشاعر الجاهلي، أنَّ هذه الصحراء قاسيةٌ على قاطنيها بكُلِّ شيءٍ، في مناخها الذي تضطربُ فيه درجات الحرارة بين الليل والنهار، فتلسعهم ببردها القارص ليلاً، ويلفح وجوهَهُم لهيبُ حرِّها الوهَّاج، يُضاف على أنَّها قاحلةٌ مُمحلةٌ، وقليلةُ المواردِ. وفي كثيرٍ من السنين، تحُلُّ بأهلِها المجاعةُ، وبخاصَّة عندما لا تجودُ السماءُ عليهم بالمطر الوافر، الذي يؤمِّنُ لهم العشبَ الذي ترعاهُ أنعامُهُم، فيصيبُهُم الجدبُ والقحطُ، وتنزلُ بهم وبإبِلِهم المهالكُ، والمآسي، وتنسفُ آمالَهُم البسيطةَ على حين غِرَّة، وتجعلُ أهلَ الصحراءِ يُلاقونَ مصيرَهُمُ المحتومَ وجهًا لوجهٍ في هذه الصحراء التي ليسَ فيها شيءٌ يُعينُهُم على تجاوزِ محنتهم.  
      ونجمَ عن قسوةِ هذه الحياة أن تفشَّتْ في مجتمعهم ظواهرُ مُدانةٌ مثلُ اللصوصيَّةِ، والصعلكة، وقُطَّاع الطُرُق، والسلبُ والنهبُ، والحروبُ، والغزواتُ التي تنشأُ بين القبائلِ حينَ تتخاصمُ على مناطقَ النفوذ، أو منابع المياه، أو بسبب العادات القبليَّةُ كالثأرِ أو الرهان، أو عقر ناقة. ويُمكنُنا أن نُدركَ ما كانت تفعلُهُ الحربُ من مآسٍ وويلاتٍ، في قصيدة زُهير بن أبي سُلمى إذ يقول في حرب داحس والغبراء التي اندلعت لسببٍ تافهٍ، وهو رهانٌ حول سباق الخيل، وذهب ضحيَّتُها خلقٌ كثيرٌ، يقول:    
وما الحربُ إلا ما عَلِمتُم وذُقتُمُ
 
وما هو عنها بالحديثِ المُرجَّمِ
متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً 
 
وتَضْرَ إذا ضرَّيتُمُوها فتُضْرَمِ
فتُعرِكُكُم عركَ الرحى بثِفالِها
 
وتلقحْ كِشافًا ثمَّ تُنتَجْ فَتُتْئِمِ([4])     
                        ويبدو واضحًا من هذه الأبيات حجمُ المعاناة التي كان يُقاسيها المجتمعُ الجاهليُّ، من جرَّاء هذه الحروبِ العبثيَّةِ، التي أرَّقتْهُم، وقضَّتْ مضاجِعَهُم، وخيَّبت آمالَهُم، وأشاعت بينهم حالةً من التشاؤم والحزن.  
        كلُّ ما تقدَّمَ جعلَ الشاعرَ الجاهليَّ يزدادُ خشيةً من هذه البيئة الصحراويَّةِ المُوحِشَةِ، والمحفوفةِ بالمخاطرِ، فخفق قلبُهُ خوفًا، فراحَ يُجِيلُ النظرَ في حياتِهِ ويتأمَّلها بتأمُّلاتٍ بسيطة، تحكي طبيعةَ بيئتِهِ الصحراويَّة، التي تتَّسمُ بالانبساط والوضوح وامتداد البصر في أرجائها، وانكشافِ معالمها، لذلك نجدُ أنَّ تأمُّلاتِهِ تقفُ عند ظواهر الأشياء، ولا تتعمَّقُ في جوهرِها كثيرًا، ولا تستبطنُ مكامنها، ومن هذه التأمُّلات التي عبَّرَ من خلالها الشاعرُ الجاهليُّ عن قَلَقِهِ واضطرابِهِ، وما يلُفُّ نفسَهُ من حُزنٍ، وكآبةٍ، وانكسارٍ نفسيٍّ، حين يرى حياتَهُ لا تستقرُّ على حال، ولا يستطيع أن يأمنَ جانبَها، ممَّا دفعه ذلك أن يصُبَّ جامَ غضبِهِ على الدهر، ورآهُ خؤونًا غادرًا، وسبب آلامِهِ، وإنَّ مثلَ هذه الموضوعات التي تتناولُ الحياةَ والموت، من الموضوعات الرئيسة التي دار عليها شعرُ الشعراء الرومانسيِّين. وقد جسَّدَ الشاعرُ الجاهليُّ صراعَهُ مع الزمن من خلال الموضوعات الآتية:  
   
الحياة والموت  
          نجدُ أنَّ موضوع الحياة والموت، أرَّقَ الشاعرَ الجاهليَّ، ممَّا جعله يبذلُ جهدًا كبيرًا، من أجلِ أن يعرفَ شيئًا من أسرارِهِ، غير أنَّ مسعاهُ قد خابَ، ولم يظفرْ إلا بما لقَّنته به الحياة، وما تجرَّعهُ منها، من مصائبَ وويلات، لذلك نجدُ ((أنَّ نظرَ الجاهليِّين إلى الموت ظلَّ مرتبطًا بمعادلةٍ غير متكافئة الطرفين، فصانعُ الموت هو الزمن، أو الدهر، الذي يُرادفه كثيرًا...ويستقرُ في الوعي أنَّ الزمنَ قاتلٌ خفيٌّ لا يفلتُ أحدٌ من براثنِهِ))([5])، ويبدو ذلك واضحًا في شعر الشاعر النابغة الجعدي وهو يقول:    
ولا تأمنوا الدهرَ الخؤونَ فإنَّهُ
 
على كُلِّ حالٍ بالورى يتقلَّبُ([6])    
                        ومثلُهُ قولُ الشاعر زهير بن أبي سُلمى الذي يعنِّفُ الدهر، ويوبِّخُهُ لما يفعلُهُ به،  وبقومِهِ، ثمِّ يقفُ مُستسلمًا أمام إرادتِهِ التي لا تُقهَرُ، فيقول:    
فاستأثرَ الدهرُ الغداةَ بهم
 
والدَّهرُ يرميني ولا أرمي
لو كان لي قرنًا أناضِلُهُ
 
ما طاشَ عند حفيظةٍ سَهْمي
يا دهرُ قد أكثرتَ فجعتنا
 
بسَراتِنا وقرعتَ في العَظْمِ
وسلبتنا ما لست مُعقِِبَهُ
 
يا دهرُ ما أنصفتَ في الحُكمِ([7])    
        وكانت مثلُ هذه المشاعر، مصدرَ نكدٍ لحياة الشاعر الجاهلي، الذي أخذَ يُمعنُ النظرَ في حياتِهِ، ويتأمَّلها جيِّدًا، لعلَّهُ يجدُ فيها ما يُهدِّئُ روعَهُ، ويُزيحُ عنهُ كابوس الخوف، غير أنَّ خلاصةَ ما وصلَ إليه من تأمُّلاتٍ لحقيقة الحياة، في كونها لا تعدو الزمنَ الذي قسَّمَهُ الإنسانُ إلى ليالٍ وأيَّامٍ وأشهُرٍ وسنين، وإنَّ هذه الأيَّامَ، والأشهُرَ، والسنينَ، تُشبِهُ المطايا التي يمتطيها الإنسان، فتمضي به نحو مصيرِهِ المحتوم، وهو تصويرٌ بارعٌ يُذكِّرُنا بشعراء الرومانسيَّة، وهم يُصوِّرونَ المواكبَ البشريَّةَ وهي تشُقُّ طريقَها في الحياة، فيتسَاقط كثيرُ من أبناء البشر في أثناء هذه الرحلة المُضنية، وهم يقطعونَ الأيَّامَ والسنينَ في حياتِهِم([8])، وكذلك بما رآهُ بعضُ الرومانسيين الذين يبكونَ على تساقطِ سنواتِ عُمرِهِم، كما تسقُطُ أوراقُ الشجرِ في فصل الخريف([9]) التي هي إيذانٌ برحيل الحياة، والسير نحو  الذبول والموت، وفي ذلك يقول حاتم الطائي:
     
         وما هي إلا ليلةٌ، ثمَّ يومُها
       
وحولٌ إلى حولٍ، وشهرٌ إلى شهرِ     مطايًا يُقرِّبنَ الصحيحَ إلى البِلى  
      ويُدنينَ أشلاءَ الهُمامِ مِنَ القبْرِ([10])
      
                        ويقولُ حاتمُ الطائي في المعنى نفسه:    
هل الدَّهرُ إلا اليومُ أو أمسِ أو غدُ
 
كذاك الزَّمانُ بيننا يتردَّدُ
يَرُدُّ علينا ليلةً بعد يومِها
 
فلا نحنُ ما نبقى ولا الدهرُ ينفَدُ
لنا أجَلٌ إمَّا تناهى أمامُهُ
 
فَنَحْنُ على آثارِهِ نَتَورَّدُ([11])    
          فقد أحزنَ تعاقبُ الأيَّام حاتمَ الطائي، ونغَّصَ عيشَهُ، عندما أدركَ ما ينجُمُ عن مجيئها، وتعاقُبها، مع الزمن، فهي تقودُهُ نحو الهرم، والشيخوخة، والفناء، وكأنَّ الشاعرَ اقتربَ ممَّا قالهُ الفيلسوف هرقليطس: ((أنت لا تنزل إلى النهر مرَّتين))([12])؛ لأنَّ الحياة مُتغيِّرةٌ، وإنَّ التغييرَ يطالُ الأشياءَ جميعها، في كُلِّ لحظةٍ من لحظات حياتها، وأنَّ لا شيءَ يظلُّ على حالِهِ، بل أنَّ الكُلَّ يمضي نحو الزوال والفناء. وهذا ما دعا الشاعرَ الجاهليَّ إلى الحزنِ وهو يستقبلُ يومَهُ الجديد؛ لأنَّهُ رأى فيه نذير شؤمٍ يحملُ معه شبح الموت، فيقول عمرو بن الأهتم:    
يُطاوحني يومٌ جديدٌ وليلةٌ
 
هما أبليا جسمي وكلُّ فتًى بالي
إذا ما سلختَ الشهرَ أهللْتَ مثلَهُ
 
كفى قاتلاً سَلخي الشهورَ وإهلالي([13])    
    ومثلُ هذا المعنى يُردِّدُهُ عبيد بن الأبرص في قوله:    
يا عمرُو ما راحَ مِنْ قومٍ ولا ابتكروا
 
إلا وللموتِ في آثارِهِم حادي 
يا عمرُو ما طلعت شمسٌ ولا غربتْ 
 
إلا تُقرَّبُ آجالٌ لميعادِ([14])    
         ويمضي الشاعر الجاهلي في تأمُّلِهِ للحياة والموت، ويُعنى بهذه الثنائية التي كانت موضوعًا بارزًا استأثَرَ باهتمام شعراء الرومانسيَّة في العصر الحديث، فكان لرؤية الشاعر الجاهلي ((في نسيج الوجود خيطان: خيطُ الحياة، وخيطُ الموت، والموت والحياة سُداةُ الوجودِ ولُحْمَتِهِ))([15])، ورأى الشاعر الجاهليُّ ثنائيَّةَ الحياةِ والموت في الطلل الذي كان عامرًا بأهلِهِ الذين نصبوا الأثافيَّ، وطهوا الطعامَ، ثمَّ رحلوا عنه، وأصبحت ديارُهُم مُقفرةً، موحشةً تسكنُها الحيوانات، بعدَ أن وجدت فيها مكانًا آمنًا خاليًا من البشر، ثمَّ يحاولُ الشاعر عبيد بن الأبرص أن يتعمَّقَ في هذا الموضوع غير أنَّهُ لم يأتِ بشيءٍ جديد سوى بعض الحكم التي استلهمها من تجاربِهِ الحياتيَّة، وهو يقول:    
إنْ بُدِّلتْ أهلُها وحوشًا
 
وغيَّرتْ حالَها الخُطوبُ
أرضٌ توارثها شعوبٌ
 
وكلُّ من حلَّها مخروبُ
إمَّا قتيلاً وإمّا هالكًا
 
والشيبُ شينٌ لِمَنْ يشيبُ([16])    
       وظلَّ شبح الموت يُلاحقُ الشاعرَ في العصر الجاهلي، في يقظته، ونومه، ويلوحُ له كما تلوح له الشمس عند شروقها وغروبها، فيذهبُ عنه، ويجيءُ إليه، فيُنغِّصُ عليه حياتَهُ، ويُحيلُها إلى حياةٍ كئيبةٍ حزينةٍ، وبخاصَّة حين تأمَّلَ الحياة بعمق، ثمَّ خرجَ  بهذه الرؤيا، وهي أنَّ حياة الإنسان مهما طالت، فلابُدَّ لها أن تفنى، ويعقبُها الموت، وعلى الإنسان أن يُدرِكَ هذه الحقيقةَ ويضعُها نُصبَ عينيه، ولا يغترُّ بطول الحياة؛ لأنَّ للدهر غولاً تتربَّصُ به سوءًا، وتبغي الانقضاض عليه، واغتياله، وإهلاكَهُ في أيَّةِ لحظة تشاء، وفي ذلك يقول الشاعر أُميَّةُ بن أبي الصلت:

                                              كلُّ عيشٍ وإن تطاولَ دهرًا                    صائرٌ مرَّةً إلى أن يزولا       
   
([1]) الرمزية في الأدب العربي، د. درويش الجندي، دار النهضة للطبع والنشر، مصر، القاهرة: 151 .  
([2]) ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس، شرح وتعليق: الدكتور محمد حسين، المطبعة النموذجية، مصر: 59 .  
([3]) نصوص من الشعر الجاهلي قبل الإسلام دراسة وتحليل، د. نوري حمودي القيسي ود. محمود عبد الله الجادر ود. بهجت عبد الغفور الحديثي: 133، و144 .    
([4]) شرح شعر زهير بن أبي سُلمى، أبو العباس ثعلب، تحقيق: الدكتور فخر الدين قباوة، ط3، مطبعة الغوثاني، دمشق، 2008م: 26- 27 .  
([5]) دراسات نقدية في الأدب العربي، د. محمود عبد الله الجادر، دار الحكمة للطباعة والنشر، بغداد، 1990م: 228 .   
([6]) ديوان النابغة الجعدي، جمعه وحققه وشرحه: د. واضح الصمد، ط1، دار صادر، بيروت، 1998م: 29 .    
([7]) شرح شعر زهير بن أبي سُلمى: 282 .   
([8]) ينظر: الأدب العربي الحديث دراسة في شعره ونثره، د. سالم أحمد الحمداني، د.فائق مصطفى أحمد، دار الكتب، مطبعة جامعة الموصل، 1987م: 218 .   
([9]) ينظر عبد الرحمن شكري ناقدًا وشاعرًا، د. عبد الفتاح عبد المحسن الشطي، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، 1999م: 256 .   
([10]) ديوان حاتم الطائي، شرح أبي صالح يحيى بن مدرك الطائي، قدّم له ووضع هوامشه وفهارسه: د. حنّا نصر الجتي، دار الكتاب العربي، بيروت: 110 .  
([11]) ديوان حاتم الطائي: 64 . إمامه: طريقه الواضح، نتورّد: نتزوّد .  
([12]) تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، دار القلم، بيروت: 17 .  
([13]) الحماسة البصرية، لعلي بن أبي الفرج البصري (ت 659هـ)، تحقيق: د. أحمد عبد المعيد خان، الهند، 1964م: 416 .  
([14]) ديوان عبيد بن الأبرص، تحقيق حسين نصَّار، مطبعة مصطفى البابي بمصر، 1975م: 48.  
([15]) الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث، د.نصرت عبد الرحمن، مكتبة الأقصى، عمَّان، ط2، 1982م: 166 .
 
                                      الخاتمة  
      إنَّ خلاصة ما توصَّلَ إليه البحث، يمكنُ إيجازُهُ بالنقاط الآتية:  
_ إنَّ ظهور هذه الأصول الرومانسيَّة في الشعر الجاهلي، يرجعُ إلى عوامل، منها ما يرجعُ إلى البيئة التي نشأ فيها هؤلاء الشعراء، وهي بيئةٌ صحراويَّةٌ مفتوحةُ الأفق، وتمتدُّ مساحاتٍ شاسعةً لم يُدرِك هؤلاء الشعراء أسرارها، ولا يعرفونَ ما تُخبِّئُهُ لهم هذه المفازات الشاسعة لِسُكَّانها، فقد لفَّها الغموض، وجعلهم يشعرونَ بالقلق والخوف، وهم يعيشونَ فيها من غير أن يعرفوا حقيقتها، فضلاً على أنَّها قليلةُ الموارد، شحيحةُ المياه، تضطربُ بصراعاتٍ وحروب، جعلت الناسَ الذين يعيشونَ فيها لا يأمنونَ على أنفسهم، ولا على أموالهم، ممَّا زادَ ذلك من كآبةِ نفوسهم وقتامتها .  
_ ونجمَ عن ذلك أنَّ الشاعرَ الجاهليَّ عُنِيَ بمشاعرِهِ الذاتيَّة نحو الحياة والموت، وحاولَ أن يعرفَ أسرارهما؛ من أجلِ أن يبعثَ الطُمأنينةَ لنفسِهِ في هذه الحياة المحفوفةِ بالمخاطرِ التي لا تستقرُّ على حال، فكانت ثنائيَّةُ الحياة والموت، هي الموضوعَ الرئيس الذي دارَ حوله معظم شعرهم، غير أنَّ هذا الشعر كان يفتقرُ إلى العمق، إذ توقَّفَ الشاعرُ عند حدود ظواهر الأمور، فأخذَ يُعلِّلُ فيها ما تطرحُهُ نفسُهُ من أسئلةٍ وهواجسَ ومخاوف، بتعليلاتٍ بسيطة، فعزا الموتَ إلى الدهر، ورأى الزمنَ قاهرًا لللإنسان.  
_ وتفرَّعَ عن هذا الموضوع الرئيس (الحياة والموت) موضوعات فرعيَّةٌ، منها الخلود، فحاول بعض الشعراء على شاكلة الرومانسيين، أن يدركوا سرَّ الخلود، غيرَ أنَّهم رجعوا من تلك التأمُّلات بخيبة أمل، إذ رأوا في الخلود ضربًا من المستحيل، وما على الإنسان إلا أن يستسلمَ لإرادةِ الأقدار.  
_ وكذلك دار شعرُهُم على ثنائيَّة الخير والشر وهي من الموضوعات الفرعيَّة التي لها علاقة مباشرة بموضوع الحياة والموت، فرأى الشاعرُ الجاهليُّ في اصطراع الخير والشر، ما يُنغِّصُ حياته ويكونُ سببًا في نكوصها وانحدارها نحو الموت، يُزاد على أنَّهم رأوا الشرَّ يُجسَّدُ لهم من خلال بعض الحيوانات التي يتطيَّرونَ منها مثل الغراب، والبوم، والطيور الأخرى، فهي تُنزِلُ الشرَّ بهم، من خلال تفريق الأهل والأحبَّة.  
_ ومن الموضوعات الفرعيَّة الأخرى التي انبثقت من الموضوع الرئيس الحياة والموت، ثنائيَّة الشباب والشيب التي جسَّدت صراع الإنسانِ مع الزمن، إذ رأى الشاعرَ الجاهليَّ من الزمن سببًا رئيسًا في مُعاناته في هذه الحياة، فالدهرُ خؤونٌ يرميه بكُلِّ ما يُعكِّرُ صفوَ حياتِهِ، وإنَّ الأيَّامَ تسوقُ الإنسانَ نحو حتفِهِ، علاوة على ما يعنيه الشباب كونه أحلى سنين العمر، بزواله تذهبُ أجملُ ذكريات الإنسان، وتحلُّ محلَّها السنينُ التي تُشعِرُ الإنسانَ بإخفاقِهِ في الحياة.  
_ نظمَ بعض الشعراء مشاعرهم نحو الحياة والموت، بقصائدَ طويلة ذاتِ منحىً قَصَصيٍّ، على شاكلة بعض الشعراء الرومانسيين في العصر الحديث، وقد وُفِّقَ بعضُهُم بتوظيف القصص التاريخي، لتعزيز ما ذهبوا إليه، بأنَّ الحياة فانيةٌ، وإنَّ الموتَ واقعٌ ولا رادَّ له، ممَّا عزَّزَ مشاعرَ الحزن واليأس في هذه الحياة، وجاء بعضُهُم بصُوَرٍ شعريَّةٍ تشبهُ الصُوَرَ التي عبَّرَ من خلالها الشعراء الرومانسيُّونَ عن مشاعرِهِم، فقد خلعوا شيئًا من مشاعرهم على الطبيعة، ورأوا في ظواهر الطبيعة، ما يُعبِّرُ عمَّا تجيشُ به نفوسُهُم من مشاعرَ نحو الحياة والموت والخلود، يُضاف على ما يُرافقُ ذلك من مشاعر الخوف والقلق واليأس.  
_ وعبَّر بعضُ الشعراء الجاهليِّين عن مشاعرهم، بالصور الشعريَّة التي تُعنى بنقل المشاعر، وتدعو للتأمُّلِ، وتترُكُ في نفسِ المُتلقِّي انطباعًا مُعيَّنًا، وهم في ذلك يشبهون الرومانسيِّين في العصر الحديث، فقد ابتعدوا عن التشبيهات الحِسِّية، وجاءوا بصورٍ شعريَّةٍ زاخرةٍ بالمشاعر، وتدعو إلى التأمُّلِ، وتوقظُ في نفس المُتلقِّي عواطفَ مُعيَّنة.

تحميل الملف المرفق Download Attached File

تحميل الملف من سيرفر شبكة جامعة بابل (Paper Link on Network Server) repository publications

البحث في الموقع

Authors, Titles, Abstracts

Full Text




خيارات العرض والخدمات


وصلات مرتبطة بهذا البحث