معلومات البحث الكاملة في مستودع بيانات الجامعة

عنوان البحث(Papers / Research Title)


الشاهد اللغوي في كتاب تنزيه الأنبياء


الناشر \ المحرر \ الكاتب (Author / Editor / Publisher)

 
حسن عبيد محيسن المعموري

Citation Information


حسن,عبيد,محيسن,المعموري ,الشاهد اللغوي في كتاب تنزيه الأنبياء , Time 08/07/2019 16:23:49 : كلية العلوم الاسلامية

وصف الابستركت (Abstract)


يستجلي أهمية الشاهد القرآني في الاستدلال اللغوي على تنزيه الأنبياء

الوصف الكامل (Full Abstract)

الشاهد اللغوي في كتاب تنزيه الأنبياء
يتطّلبُ نقاشُ المسائل الخلافية في أيّ ميدان من ميادين المعرفة استدلالًا مشفوعًا بالاستشهاد بما يقوّي الحجة ويزيد الدليل وضوحًا.
ولمّا كان السيّد المرتضى ناقش مسألةً عقائديّةً خلافيّةً, وهي عصمة الأنبياء (عليهم السلام)، فإنّ من الطبيعيّ أن يَعْمَدَ إلى استحضار الشواهد التي يدعم بها رأيَه.
والذي يَهُمُّنا هنا ما استشهد به السيّدُ المرتضى في مَعْرِض استدلاله اللغويّ على تنزيه الأنبياء (عليهم السلام)؛ لتكون حجته فيما يقول جليّة، ويكون دليله المسوق في المسألة قويًا, ويمكن أن نرصد في هذا الاستشهاد ثلاثة أنواع, تتمثل باستشهاده بآيات أخر, واستشهاده بالقراءات القرآنية واستشهاده بالشعر.
1.استشهادُه بآياتٍ أُخَرَ:
يُعَدّ الاستشهاد بنصّ قرآنيّ في تفسير نصّ قرآني آخرَ منحى تفسيريًا معروفًا, ويُصْطلح عليه بـ(تفسير القرآن بالقرآن)( ), وليس أقوى حجةً من أن يُستدل بآية على تفسير أخرى( ) وتُستمد هذه القوة من وثاقة النصّ المستشهد به, وهو القرآن الكريم, وقد كان هذا النوع من الاستشهاد حاضرًا عند السيّد المرتضى, وهو يسوق استدلالاته اللغويّة على تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) عمّا نسبه إليهم من فهم من بعض نصوص القرآن الكريم ما يخالف عصمتهم( ).
ومن أمثلة ذلك ما ذكره في تنزيه إبراهيم (عليه السلام) عن القول بخلق الله تعالى الأفعال من أنَّ (ما) في قوله تعالى: ((قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)) [سورة الصافات: 95، 96] دالة على المعمول فيه لا على العمل, أي: على المنحوت دون النحت, خلافًا للمجبّرة الذين يعتقدون أنّ الله تعالى يخلق أفعال العباد( ), وهذا يعني أنَّ (ما) هنا موصولة وليست مصدرية.
واستشهد السيّد المرتضى بنصيين قرآنيين يوثق فيهما استدلاله اللغويّ، وذلك أن الله تعالى قال في عصا موسى(عليه السلام) : ((تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ)) [سورة الأعراف, من الآية: 117], و(سورة الشورى من الآية:45), وفي آية أخرى قال تعالى: ((وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا)) [سورة طه, من الآية: 69], ومعلوم أنّه ليس المراد أن عصا موسى (عليه السلام) التي انقلبت ثعبانًا مبينًا تلقف أعمالهم التي هي الحركات, وإنّما أراد أنّها تلقف الحبال وغيرها مما نتج عن عملهم السحر( ).
فأنت تلاحظ أن السيّد المرتضى اقتطع في النص الأول موضع الشاهد دونما ذكرٍ لما قبله؛ ليُحيلَ القارئَ إلى الموضعين اللذين ورد فيهما في سورتين مختلفتين إشارةً إلى أن هذا الاستشهاد لم يكن فردًا في القرآن الكريم, وإنما تكرر, وهو ما يزيد استدلالَه قوة ووضوحًا, ولم يكتفِ بهذا الاستشهاد الواضح الذي يتعلق بموضوع الخلاف, وهو (ما), وإنما أورد نصًا آخرَ يُثبت به أن المراد من قوله تعالى (ما يعملون) هو المفعول فيه (المنحوت) لا العمل نفسه (النحت), وذلك بإثباته أنّ المراد بـ(ما صنعوا) هو المصنوع لا الصنع نفسه, ثم زاد على ذلك كله بأن أورد نصًا أخر مستشهدًا به على أنّ (ما) في الآية محلّ البحث موصولة لا مصدرية, وذلك قوله تعالى:((يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ)) [سورة سبأ, من الآية: 13] فسمّى المعمول فيه عملًا( )، وهذا يعني أنّ التماثيل والجفان والقدور الراسيات وردت تمييزًا للمراد من (ما) في قوله (ما يشاء)، فدّل ذلك على أنّها موصولة دالة على ما نتج عن العمل من أشياء عينيّة, ولا دلالة فيها على العمل نفسه لتكون مصدرية. وخلاصة القول أنّ السيّد المرتضى استحضر نصوصًا قرآنية ليستشهد بها على دلالات لغويّة لا تتعارض مع تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) في نصوص قرآنية أخرى.
2.استشهادُه بالقراءات القرآنية:
لقيتِ القراءاتُ القرآنيّةُ عند اللغويّين عنايةً مشهودةً، ولها أثرٌ كبيرٌ في الدراسات اللغويّة وما تتطلبه من استشهادٍ بها على المسائل الخلافية, واستحضارٍ لها في تقعيد القواعد النحويّة( ).
وتُعَدُّ القراءات القرآنية من مصادر التفسير اللغويّ, وذلك بما تحمله كتب الاحتجاج لها من تفسيرات لغويّة ومسائل تتناسب مع طبيعة البحث اللغويّ( ).
وقد أدرك السيّد المرتضى أهمية القراءات القرآنية في استدلاله اللغويّ على تنزيه الأنبياء (عليهم السلام), ولذلك كان الاستشهاد بها حاضرًا في تحليله اللغويّ للنصوص القرآنية التي ناقشها متلمسًا دلالاتِها التي تنسجم مع عصمة الأنبياء(عليهم السلام) وتدفع عنهم ما لا يليق بهم( )
ومن أمثلة استشهاده بالقراءات القرآنية استئناسًا بها في الاستدلال اللغويّ ما أورده من قراءة في قوله تعالى: ((وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ، قَالَ يَا نُوحُ أنّه لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أنّه عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)) [سورة هود:45، 46]، فقد ذكر أنّ جماعةً من المفسّرين ذهبوا إلى أنّ الهاء في قوله تعالى(إنّه عملٌ غيرُ صالح) عائدةٌ إلى سؤال نبيّ الله نوح (عليه السلام) والمعنى: إن سؤالك إياي لأنجي ابنك من الهلاك عملٌ غير صالح, وهذا لا يتفق وعصمته, وأجاب بأن هذه الهاء لا ترجع إلى السؤال, وإنما إلى الابن, ويكون الكلام على تقدير مضاف, أي: إنّ ابنك ذو عمل غير صالح, وممّا استشهد به على صحة هذا التأويل قراءة من قرأ (إنّه عَمِلَ غيرَ صالح)( )، ولا شبهةَ على هذه القراءة في رجوع الكلام إلى الابن دون السؤال( ). ولم يقف الشريفُ المرتضى عند هذا الحدّ من عَضْد استدلاله اللغويّ بهذه القراءة, وإنما راح يدافعُ عنها رادًّا ما نقله من بعضهم من تضعيف لها, بحجة أنّه يُفترض أن يقال: أنّه عمل عملًا غير صالح؛ لأن العرب لا تكاد تقول: هو يعمل غير حسن حتى يقولوا: عملًا غير حسن, وردّ على ذلك بأن هذه القراءة ليست ضعيفة؛ لأنها جارية على مذهب العرب بإقامة الصفة مقام الموصوف عند انكشاف المعنى وزوال اللبس, فيقول القائل: فعلت صوابًا, وقلت حسنًا, والمعنى: فعلتُ فعلًا صوابًا, وقلتُ قولًا حسنًا, واستشهد لهذا الاستعمال بنصوص شعريّة إثباتًا لوجوده, بل لكثرته في كلام العرب( ).
وعلى العكس مما تقدم, نجد السيّد المرتضى يورد قراءة قرآنية على أنّها أحد الوجوه التي يذكرها لتنزيه أحد الأنبياء(عليهم السلام) عن شبهةٍ ما, ثم يحكم بضعف الاستشهاد بهذه القراءة, يتجلى ذلك في الوجه الخامس من الوجوه التي أوردها, وهو يردّ على من فهم من قوله تعالى: ((وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)) [سورة الضحى: 7] ضلالَ النبيّ محمد(صلى الله عليه واله وسلم) قبل النبوة, فذكر أنّه رُويتْ في هذه الآية القراءةُ بالرفع هكذا: (ألم يجدك يتيمٌ فآوى, ووجدك ضالٌ فهدى)( )، على أنّ يتيمًا وضالًا هما من وجد رسول الله(صلى الله عليه واله وسلم), فقال: ((وهذا الوجه ضعيف؛ لأن القراءة غير معروفة, ولأن هذا الكلام يَسْمج, ويَفْسد أكثر معانيه))( ).
وواضحٌ أنّ الاستشهاد بهذه القراءة مبتنى على جهتين, إحداهما: القراءة نفسُها من حيث كونُها غيرَ معروفة عند أهل القراءات، زيادةً على كونها غيرَ متواترة كما هو أحد شروط القراءة المقبولة( )، والأخرى: ما تؤديّه هذه القراءة من معنى بعيد.
ونستجلي من ذلك أنّ السيّد المرتضى لا يقبل بأيّ وجه من شأنّه أن يقودنا إلى تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) مع أنّه يورد هذا الوجه في معرض نقاشه للمسألة, وإنما نراه يمارس على الوجوه التي يذكرها نقده اللغويّ؛ ليصدر حكمه عليها من حيث القوة أو الضعف, ولعلّ السبب في إيراده الوجهَ الضعيفَ في استدلاله اللغويّ أنّه يروم التنبيهَ على ضعفه, وإشعارَ القارئ بأنّه على علم بالوجوه التي قيلت في المسألة المدروسة صحيحِها وسقيمِها, وهو ما يدلُّ على سعة اطلاعه في الميدان الذي يكتب فيه.
وقد يستشهد الشريف المرتضى بقراءة من دون أن يرفض الاستدلال بها أو يضعّفه, مع أنّها مما يبعد الأخذ بها والركون إلى دلالتها, نلاحظ ذلك في ردّه اعتراضَ مَن يقول في قوله تعالى: ((أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ)) [سورة الكهف, من الآية: 79]: كيف سمّى الخضر (عليه السلام) مالكي السفينة مساكين, والسفينة تساوي المال الجزيل, والمسكين عند قومٍ أسوء حالًا من الفقير؟! ويجيب السيّد المرتضى عن ذلك بما ملخّصه أنَّ المسكنة هنا لا تعني الفقر, وإنما المراد بها عدم الناصر وانقطاع الحيلة, وأنَّ السفينة الواحدة التي لا يُتَعَيّش إلا بها, ولا يُقدر على التكسّب إلا من جهتها كالدار التي يسكنها الفقير هو وعياله, ولا يجد سواها وإذا أضيف إلى ذلك أن يشاركه جماعة في السفينة, فيكون له جزء يسير منها كان أسوء حالًا وأظهر فقرًا( ), ثم ذكر وجهًا آخر, وهو أن لفظ (مساكين) قد قُرئ بتشديد السين( )، وقال: ((فإذا صحّت هذه الرواية فالمراد بها البخلاء, وقد سقط السؤال))( ), فالسيّد المرتضى ارتضى الدلالة التي تترتب على هذه القراءة؛ لينتقض السؤال الذي يناقشه, ولم يحكم بضعف هذه الدلالة أو برفضها, وإن كان اشترط فيها صحة سند القراءة. وكان ينبغي عليه أن لا يقبل ما يؤول عن هذه القراءة من معنى لا ينسجم وقصة موسى والخضر(عليهما السلام), إذ لو كان المعنى أن السفينة كانت لبخلاء يعملون في البحر لما كان لتسويغ الخضر (عليه السلام) خَرْقَهُ السفينةَ وجهٌ مقبولٌ؛ لأنّ هذا التسويغ مبنيٌّ على أنّ الغاية من خرق السفينة كونُ مالكيها مساكينَ لا يملكون غيرها, وكان وراءهم ملكٌ يأخذ كلَّ سفينة لا عيبَ فيها غصبًا, فتعمُّدُه عيبَها كان من أجل أن تبقى مصدرَ معاشهم؛ لأنهم مساكين. أمّا لكونهم بخلاءَ فلا يستقيم معه هذا التسويغ, إذ لا يستلزم ذلك أن تكون السفينةُ هي ما يعيشون بواسطته فقط دون غيره, فليس ممتنعًا أن يكون للبخيل أكثرُ من مصدر للمعيشة, وهو باقٍ على حاله من البخل, ولعّل الأكثر في البخيل أن يكون على هذه الحال من اليسر ووفرة المال الذي يمنعه من صرفه ما هو عليه من البخل, ثم إنَّ التماس الحيلة بخرق السفينة لا يبدو مقبولًا عقلًا في حال عَلِمنا بأنّه كان من أجل مساعدة بخلاء, فالبخل ممّا هو مكروه من الأخلاق, والبخيل منبوذ في مجتمعه, فلا يستقيم أن يكون الخضر (عليه السلام) فعل ما فعله من أجل أصحاب السفينة البخلاء, وإنما فعله من أجل أصحاب السفينة المَسَاكين.
3. استشهادُه بالشعر:
يعدّ الاحتكام إلى شعر العرب والرجوع إليه في بيان الدلالات القرآنية منهجًا أصيلًا في تفسير القرآن الكريم, ولعلّ ابن عباس (ت:69ه) قد حاز في ذلك قصب السبق, إذا أجرى إجاباته على مسائل نافع بن الأزرق على هذا النحو في كلّ مسألة( ), وهذا المنحى يستند إلى مسلّم بها هي أن القرآن الكريم نزل على وفق سنن العرب في كلامهم, فمن اللازم لفهم معانيه ومقاصده أن يَعْمد المفسّر إلى ديوان العرب الأكبر – وهو شعرهم – متلمسًا سُنَنَهم في التعبير ليكشف عن دلالة قرآنية ما, وقد ذكر السيوطي(ت:911 هـ) ((أنَّ الشعرَ ديوانُ العرب, فإذا أخفيَ علينا الحرفُ من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رَجَعنا إلى ديوانها فالتمسنا ذلك منه))( ).
ويعدّ السيّد المرتضى من أوائل العلماء الذين أَوْلَوا الشاهد الشعريّ عنايتَهم الكبيرةَ في بحثهم التفسيريّ, لإيضاح الدلالة القرآنية, سواء أكانت دلالة لفظ بعينه أم دلالة أسلوب من أساليب التعبير أم كان الاستشهاد لبيان ظاهرة نحويّة أم لإيضاح انسجام الآيات وترابطها وبُعدها عن الاختلاف والتناقص كما يزعم بعض المشكّكين.( ).
ولا غروَ؛ فالسيّد المرتضى شاعرٌ كبيرٌ يجاري أخاه الشريف الرضيّ, وهو ينهلُ من اللغة, ويعرفُ أساليب العرب في كلامهم, وهو أولى بأن يَعِيَ أهميةَ الشاهد الشعريّ في الاستدلال اللغويّ في بحثه التفسيريّ عمومًا, وفي دراسته للنصوص القرآنيّة المتعلقة بموضوع تنزيه الأنبياء(عليهم السلام) على وجه الخصوص, ولذلك نجده في ميدان استدلاله بالشعر وتوظيفه في تحليله اللغويّ للنصوص قد ((أبدى تفوقًا عجيبًا, وأبان عن ذهنٍ وقّاد, وذكاء ملتهب, وبصر نافذ, وأعانه فيما فسَّر وأدّل ووجّه وفرةُ محفوظه من الشعر واللغة ومأثور الكلام))( ).
والناظر في كتاب (تنزيه الأنبياء) يجد السيّد المرتضى يستحضر الشعر ويستشهد في به كثير من المسائل التي يناقشها, والذي نحن أعنى به هنا هو استشهاده على استدلاله اللغويّ, فنرى أنّه يورد من أشعار العرب ما يؤيد به صحة معنى لفظ معين أو أسلوب في التعبير أو استعمال بلاغي أو دلالة نحويّة أو غير ذلك ممّا يتصل بالاستدلال اللغويّ.
ويَلفت النظرَ في منهج السيّد المرتضى في الاستدلال بالشعر أنّه غالبًا ما يستشهد بأشعار المتقدمين( ), والأكثر في استشهاده أنّه ينصّ على اسم قائل الشعر( ), وقليلًا ما يترك البيت غفلًا بلا نسبة( ), ويدل ذلك على حرصه الشديد على توثيق الاستشهاد ورصانته؛ ليَكون استدلاله أكثر قوة وأبين حجة, وهو يبرهن ما وُسِمَ به من ((أنّ منهجه بالاستشهاد فيه شيء غير قليل من الصرامة)) ( ).
ويظهر جليًا في استشهاد السيّد المرتضى بالشعر أنّه كثيرًا ما لا يكتفي بإيراد شاهد واحد على ما يريد بيانه من دلالة. وإنما يورد أكثر من شاهد شعريّ دليلًا على ما يذكره( ), وقد يكتفي بذكر شاهد واحد, إلا أنّ ذلك غالبًا ما يكون بعد استشهاده بنصّ قرآني في المسألة نفسها( ) ، ومن أمثلة تعدُّد الشاهد الشعريّ عنده في بيان الدلالة اللغويّة ما أورده في معرض إجابته عن تنزيه آدمَ وحوّاء(عليهما السلام) عن الشرك بالله تعالى في قوله عز وجل: ((فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا)) [سورة الأعراف, من الآية: 190], وذلك أن الضمير في (جَعَلا) غيرُ راجع إلى آدمَ وحواء (عليهما السلام), بل إلى الذكور والإناث من أولادهما, أو إلى جنسين ممن أشرك من نسلهما, ويكون تقدير الكلام: فلّما آتى اللهُ آدمَ وحوّاء الولدَ الصالحَ الذي تمنياه وطلباه, جعل كفار أولادهما ذلك مضافًا إلى غير الله تعالى, ويقوي ذلك قوله تعالى في ذيل الآية: (فتعالى الله عمّا يشركون), وهذا ينبئ عن أن الضمير في (جعلا) عائد على الجنسين أو النوعين المشار إليهما( ), ثم نصّ السيّد المرتضى على أنّه ((ليس يجب من حيث كانت الكناية راجعة إلى آدمَ(عليه السلام) وحوّاء أن يكون جميعُ ما في الكلام راجعًا إليهما؛ لأن الفصيح قد ينتقل من مخاطبٍ إلى خطابِ غيره, ومن كناية إلى خلافها)) ( ).
واستشهد على هذا الاستدلال بآية قرآنية هي قوله تعالى: ((إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9))) [سورة الفتح: 8، 9] فالضمير في (تعزروه وتوقروه) راجعٌ إلى الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) والضمير في (تسبحوه) عائد على مرسل الرسول, وهو الله جلّ وعلا, فالكلام واحدٌ متصل بعضه ببعض غير أن الكناية(الضمير) مختلفة( )، وأعقب هذه الآية بثلاثة شواهد شعريّة فقال:)) وقال الهذلي:
يا لهف نفسي كأنَّ جدّة خالدٍ وبياض وجهك للترابِ الأعفرِ
ولم يقل: بياض وجهه.
وقال كُثَير: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلّتِ
فخاطب ثم ترك الخطاب.
وقال الآخر: فدًى لك ناقتي وجميع أهلي ومالي أنّه منه أتاني
ولم يقل: منك أتاني))( ).
ويظهر ممّا تقدم أن السيّد المرتضى لم يكتفِ بشاهد واحد على استدلاله اللغويّ, وإنما ذكر أكثر من شاهد عليه زيادة على تنوعّ الشاهد عنده, إذ بدأ بالاستشهاد بنصّ قرآني ثم أعقبه بالشواهد الشعريّة التي نسب اثنين منها إلى قائليها, وترك الثالث دونما نسبة.
ومن أمثلة استشهاده بنصّ قرآني وآخر شعريّ ما ذكره في استدلاله على أن (في) بمعنى (إلى) في قوله تعالى مخبرًا عن إبراهيم(عليه السلام): ((فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ)) [سورة الصافات: 88] حيث قال: ((ليس يمتنع أن يريد بقوله (في النجوم) أنّه نظر إليها؛ لأنّ حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض؛ قال الله تعالى: ((ولأصلبنكم في جذوع النخل)) وإنما أراد: على جذوعها, وقال الشاعر:
اسْهَري ما سَهَرتِ أمَّ حكيم واقْعُدِي مرّةً لذاك وقُومي
وافْتَحي البابَ وانظُري في النّجومِ كم علينا من قَطْع ليلٍ بهيمِ
وإنما أراد: انظري إليها؛ لتعرفي الوقت))( )، وإنّما ذكر ذلك لينزّهَ النبيّ إبراهيم (عليه السلام) من أن يفعل ما يفعله المنجّمون من النظر في النجوم، فعلى وفق هذه الدلالة يكون إبراهيم (عليه السلام) نظر إلى النجوم نظر المبصر لها، لا نظر المتفكّر فيها؛ لمعرفة ما يكتشفه المنجمون من أحوالها، وليس في ذلك مؤاخذة.
ونخلص ممّا مرّ عرضُه إلى أنّ استشهاد السيّد المرتضى مبنيٌ على تعدُّد الشواهد التي يسوقها حججًا على استدلاله, وينسجم ذلك مع البيان الذي يجري البحث فيه, فهو ميدان استدلاليّ تعجّ فيه الآراء المختلفة والرؤى المتعددة, ولذلك يتطلب النقاش فيه والاستدلال أن تتعدد الشواهد على ما يُذكر من أدلة؛ لتكونَ أقربَ لأن يقبلَ بها الطرفُ الآخرُ, وقد انجلى واضحًا أنّ السيّد المرتضى يقدّم الشاهد القرآني على الشاهد الشعريّ حين يجمع بينهما الاستشهادُ في مسألة واحدة, فإن لم يجد شاهدًا قرآنيًا أورد شواهدَ شعريّةً غيرَ مكتفٍ بشاهد واحد.

تحميل الملف المرفق Download Attached File

تحميل الملف من سيرفر شبكة جامعة بابل (Paper Link on Network Server) repository publications

البحث في الموقع

Authors, Titles, Abstracts

Full Text




خيارات العرض والخدمات


وصلات مرتبطة بهذا البحث