معلومات البحث الكاملة في مستودع بيانات الجامعة

عنوان البحث(Papers / Research Title)


المظاهرُ اللهجيّة الصوتيّة في كتاب المفصل


الناشر \ المحرر \ الكاتب (Author / Editor / Publisher)

 
حسن عبيد محيسن المعموري

Citation Information


حسن,عبيد,محيسن,المعموري ,المظاهرُ اللهجيّة الصوتيّة في كتاب المفصل , Time 08/07/2019 17:34:35 : كلية العلوم الاسلامية

وصف الابستركت (Abstract)


يبحث عن المظاهر الصوتية في كتاب المفصل للزمخشري

الوصف الكامل (Full Abstract)

المظاهرُ اللهجيّة الصوتيّة في كتاب المفصل
تَشهدُ اللغةُ اختلافاتٍ صوتيّةً بين ناطقيها، وتشكّلُ هذه الاختلافاتُ مظاهرَ لهجيّةً تتّسم بها البيئاتُ اللغويّةُ لتلك اللغة، وقد عُني اللغويّون بدراسة هذه المظاهر، وحدّدوها، ونسبوها إلى الناطقين بها، وكشفوا عن سماتها الصوتيّة، ووضعوا لها ضوابطَ تفصل بين بعضها، على نحوٍ يكشف عن دراية علماء العربية بهذه المظاهر، ووعيهم بأهميتها في دراسة اللغة.
وندرس في هذا المبحث ما وقفنا عليه من تلك المظاهر اللهجيّة عند الزمخشريّ في كتابه (المفصّل)، ونتبيّن موقفَه منها، ونستقرئ آراءَ الدارسين القدماء والمحدثين فيها، ونبثّ ما يوفقنا الله تعالى إليه في أمرها، وذلك على النحو الآتي:
أولاً: العنعنة
تُعَرَّفُ العنعنةُ بأنّها قلبُ الهمزة عيناً ( )، وتُنسب إلى بني تميم، فيقال: عنعنة تميم، ومن ذلك قول الشاعر:
أعن ترسَّمتَ من خرقاءَ منزلةً ماءُ الصبابةِ من عينيك مسجومُ ( )
إذ قال: (أعن) في (أأن) فقلب الهمزة عيناً ( ).
وقد وردت للعنعنة إشارتان في كتاب المفصَّل، الأولى: في حديث الزمخشري عن (أنَّ) المفتوحة الهمزة عندما تأتي بمعنى (لعل)، إذ قال: (( وتخرج المفتوحة إلى معنى (لعلّ) كقولهم: ائت السوق أنَّك تشتري لحماً. وتبدل قيس وتميم همزتها عيناً، فتقول: أشهدُ عَنَّ محمداً رسولُ الله))( ).
والإشارة الثانية هي قوله: (( وتميم وأسد يحولون همزتها عيناً فينشدون بيت ذي الرمَّة: أأن ترسمت من خرقاء منزلة : أعن ترسمت، وهي عنعنة بني تميم ))( )، فيلاحظ أنَّ الزمخشريَّ في الموضع الأول نسبها إلى قيس وتميم، وفي الموضع الثاني إلى تميم وأسد، ثم قال: وهي عنعنة تميم، وربَّما يعود ذلك إلى العلاقة الوثقى بين لهجتي قيس وأسد وبين لهجة تميم، إذ كثيراً ما تكون لهذه اللهجات الثلاث خصائص واحدة ( ). يزاد على ذلك أنَّ قبيلتَي تميم وأسد كانتا كلتاهما في السُّبْع السابع من أسباع الكوفة أيام خلافة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)( ).
وقد نسب أبو جعفر النحّاس (ت:338ه) العنعنة إلى أسد وقيس من غير أنْ يذكر تميماً( ).
ويُنقل عن الفرَّاء (ت:207 هـ) أنَّ قلب الهمزة عيناً ينحصر في (أنَّ) المفتوحة الهمزة، فإذا كسرت همزتها بقيت على حالها ( ). ويُفهم من إشارتَي الزمخشريّ السالفتين أنه يرى هذا الرأي أيضًا؛ إذ لم يوردها إلا مع (أنَّ) المفتوحة الهمزة، غير أنَّ العنعنة تتجاوز ذلك إلى استعمالات لغويّة أخرى وردت عن العرب كالخبع في (الخبأ) و(كَعَصْنا) في (كَأَصْنا) بمعنى: أَكَلْنا، وغير ذلك كثيرٌ من الاستعمالات( ) ، مما يدلُّ على أنَّ ظاهرة العنعنة أكبر مما حدّها به بعض اللغويّين، وربّما كان قصرُهم لها على ما ذكروا بسبب كثرة الشواهد الواردة في ذلك، يُزاد عليه لفظ مصطلح (العنعنة)، إذ خُيّل إليهم أنَّها سُميت بذلك؛ لاجتماع العين والنون ( ).
أمَّا أسباب حدوث العنعنة فمنها ما أشار إليه ابن يعيش (ت:643ه) إذ قال: (( هذه لغة تميم وأسد يبدلون الهمزة المفتوحة عيناً، وذلك في (أنْ وأنَّ) خاصة إيثاراً للتخفيف لكثرة استعمالهما وطولهما بالصلة قالوا: أشهد عنَّ محمداً رسول الله، ولا يجوز مثل ذلك في المكسورة))( ). ويظهر من هذا النص أنَّ ابن يعيش من الذين يحصرون حدوث العنعنة في (أنْ وأنَّ) مفتوحتَي الهمزة، وبناءً على كثرة استعمالهما في الكلام جَعَلَ سببَ ظاهرة العنعنة فيهما إيثاراً للتخفيف؛ لأنَّ العرب تخفف ما كثر استعماله في كلامها.
وأعتقد أنّ طلب التخفيف ليس سبباً مقنعاً في تفسير حدوث العنعنة، إذا ما علمنا أنَّ من الدارسين مَن جعل العنعنة أقصى مراحل تحقيق الهمزة؛ لأنَّها تنسجم مع طبيعة القبائل البدوية التي تميل إلى تفخيم الصوت والجهر به( ). إذ كيف يتحقق تخفيف الهمزة بصوتٍ يُعدُّ أقصى مراحل تحقيقها، ولعلّ الأقربَ في بيان سبب هذا الإبدال بين حرفي الهمزة والعين هو تقارب مُخرَجيهما الذي يسوِّغ أن ينطقَ بعضُ العرب في بيئة لغويّة معينة صوتَ الهمزة عينًا، وليس أدلّ على هذا التقارب من تصريح أبي عمرٍو الداني (ت:444 هـ) بأنّ (( إجماع أئمّة القراءة وعلماء العربيّة على أنّ موضع الهمزة من الكلمة يُمْتَحنُ بالعين، فحيثما استقرّت العين فهو موضعُ الهمزة)) ( )
ومن نافل القول أنَّ العنعنة بمفهومها الأشمل الذي لا يقصرها على الهمزة في (أنْ وأنَّ) تجد لها مكاناً في لهجاتنا المعاصرة، ومن ذلك ما يقول بعضهم من كلمات مثل: قرعان في قرآن وسُعال في سُؤال وفجعة في فجأة وغيرها( ).


ثانيًا: الكشكشة
ذكر الزمخشري هذا المظهر اللهجيّ في لغة العرب بقوله: ((شين الوقف، وهي الشين التي تُلحقها بكاف المؤنث إذا وقف مَن يقول: أكرمتكش، ومررت بكش. وتسمى الكَشْكَشَة، وهي في تميم))( ). ويظهر من هذا النص ثلاثة أمور:
الأول: أنَّ الزمخشري يجعل الكشكشة في الوقف فقط.
والثاني: أنَّه يعني بها شيناً تُلحق بكاف المؤنث.
والثالث: أنَّه لم ينسبها إلى غير بني تميم.
وهذه الأمور الثلاثة غير متفق عليها عند اللغويّين، بمعنى أنَّ الكشكشة ليست في الوقف فقط، بل تأتي في حال الوصل أيضًا، وأنَّها ليست على صورة شين تلحق بكاف المؤنث فقط، بل لها صورة أخرى لم يذكرها، وأنَّها ليست في بني تميم فقط، بل هي منسوبة إلى غيرهم أيضاً، وهذا ما سيتضح فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
ذكر الخليل (ت:175ه) أنَّ الكشكشة هي إضافة شين بعد كاف المخاطب المؤنث مثل: عليكش، أو قلب كاف المخاطب المؤنث شيناً مثل: عليش( ). وهذا يعني أنَّ للكشكشة صورتين وليست صورة واحدة، وذكر هاتين الصورتين ابنُ فارس (ت:395ه) ونسبهما إلى بني أسد( ). فهي إذن ليست مقصورة على بني تميم.
وقد علل سيبويه (ت:180ه) حدوث الكشكشة، فذكر أنَّها تحدث في الوقف فقط، إذ يُؤتى بالشين مكان الكاف التي هي للمؤنث في الوقف؛ ليفرّقوا بينها وبين التي هي للمذكر؛ لأنَّ كسرتها لا تظهر في الوقف، والغريب أنَّ سيبويه يمثّل لذلك بما يفيد بكل وضوح حدوث الكشكشة في الوصل أيضاً، وأودُّ أنْ أنقل قوله بنصّه على طوله؛ ليتضحَ وجهُ الغرابة فيه، يقول: (( فأمّا ناسٌ كثيرٌ من تميم وناسٌ من أسدٍ فإنهم يجعلون مكان الكاف للمؤنث الشين. وذلك أنَّهم أرادوا البيان في الوقف؛ لأنها ساكنة في الوقف فأرادوا أنْ يفصلوا بين المذكر والمؤنث؛ وأرادوا التحقيق والتوكيد في الفصل؛ لأنهم إذا فصلوا بين المذكر والمؤنث بحرف كان أقوى من أنْ يفصلوا بحركة؛ فأرادوا أنْ يفصلوا بين المذكر والمؤنث بهذا الحرف؛ كما فصلوا بين المذكر والمؤنث بالنون حين قالوا: ذهبوا وذهبن، وأنتم وأنتن. وجعلوا مكانها أقرب ما يشبهها من الحروف إليها؛ لأنها مهموسة كما أنَّ الكاف مهموسة، ولم يجعلوا مكانها مهموساً من الحلق لأنها ليست من حروف الحلق. وذلك قولك: إنشِ ذاهبةٌ، ومالشِ ذاهبة، تريد: إنك، ومالك )) ( ). فالذي ينظر في المثالين الذين ساقهما سيبويه يظهر له أنَّ كاف الخطاب فيهما لا يوقف عليها، ب هما في محلّ وصل، فكيف يؤتى بالشين في الوقف فقط؟! والجملتان في المثالين لا تحتملان غير كونهما للمؤنث بدليل تأنيث الخبر في الأولى، والحال في الثانية، وهما قوله (ذاهبة)، فكيف يؤتى بالشين تفريقاً بين المذكر والمؤنث؟! وهذا يدلّ على أنّ تعليل سيبويه للكشكشة بقصد التفريق بين المذكر والمؤنث يتناقض مع أمثلته التي ساقها على هذا المظهر اللهجيّ، ولعلّ تعليله هذا يكون مقبولاً في حال الوقف فقط، ولا يتفق مع ورود الكشكشة في حال الوصل، فالأوفق في تعليلها أنها سمة لهجيّة لبعض العرب، ليس لها أثر في الدلالة على مراد المتكلم.
وذكر ابن يعيش أنَّهم قد يجرون الوصل مجرى الوقف، أي : تأتي الكشكشة في غير الوقف أيضاً وذكر أمثلة لذلك منها قول الشاعر:
فعيناشِ عيناها وجيدشِ جيدها سوى أنَّ عظم الساق منشِ دقيق( )
ومنها قولهم: إذا أعياشِ جاراتشِ فأقبلي على ذي بيتشِ، أي: إذا أعياكِ جارتاكِ فأقبلي على ذي بيتكِ، ومنها أيضاً قراءتهم: (( قد جعل ربشِ تحتشِ سرياً )) في قوله تعالى: ((قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)) [سورة مريم:24]( ).
ووصف الدكتور غالب المطلبي ظاهرةَ الكشكشة بالغامضة بناءً على وجود صورتين لها فيما يُروى عن اللغويّين وهما: إبدال كاف المؤنث شيناً، وإضافة شين بعد هذه الكاف، ولذلك يرجّح وجودَ الصورة الأولى، ويعتقد أنَّ الصورة الثانية جاءت نتيجةَ خلط اللغويّين( ).
ولا أرى أنَّ اللغويّين خلطوا في شيء مما ذكر، إذ من الممكن جداً أنْ تكون الصورتان موجودتين، وربّما تكون كلّ صورة قد اشتُهرتْ عند قبيلة معينة ممن عرفت عنهم الكشكشة، وقد تقدّم أنَّها رُويت عن قبائل عدّة. ومما يؤيّد وجود الصورة التي أنكرها الدكتور المطلبي زيادة على ما مر أنَّ ابن يعيش يجعل لزيادة الشين بعد الكاف غاية يتوخاها الناطقون بهذه اللهجة، وهي الحرص على البيان، ويقصد بيان كون الكاف للمخاطبة المؤنثة وذلك عند الوقف، جاء ذلك في قوله: (( وقد زادوا على هذه الكاف في الوقف شيناً حرصاً على البيان فقالوا: مررت بكش وأعطيتكش ))( ). فزيادة الشين بعد الكاف غيرُ إبدال الكاف شينًا، فاللغويّون لم يخلطوا بين الصورتين، وإنما كان لكل صورة حضور في لهجات العرب، بل إنّ كثيرًا من اللغويّين ــ ومنهم الزمخشريّ ــ يقتصرون في بيان معنى الكشكشة على الصورة الثانية التي أنكرها الدكتور المطلبي، ما يعني أنّ إنكارها لها قد جانَبَ فيه الحقيقة.

ثالثًا: الإبـــــــــدال
جعل الثعالبي(ت:429ه) الإبدال من سنن العرب في كلامهم فقال: (( من سنن العرب إبدال الحروف، وإقامة بعضها مكان بعض، في قولهم: مَدَحَ ومَدَهَ، وجدَّ وجذَّ، وخرم وخزم، وصقع الديك وسقع ))( ).
ويقع الإبدال بين الأصوات بشرط أنْ نلحظ علاقة صوتيّة بين الحرفين المبدل والمبدل منه، ولذلك يُعدُّ القرب في الصفة والمُخرَج بين الصوتين شرطاً في حدوث الإبدال بينهما ( ).
ويهدف الإبدال بين الأصوات إلى التخفيف والتقريب بين الصوتين المتجاورين، وهو يُسهم أيضاً في توفير الجهد العضلي عند النطق بهذين الصوتين( ).
وقد وردت في كتاب المفصَّل أربع حالات للإبدال هي:

1. إبدال الهمزة هاءً:
ذكر الزمخشريّ إبدال الهمزة هاءً في لغة طيء، فهم يقولون: هرقت الماء، وهرحت الدابة، وهنرت الثوب وهِيّاك وهَمَا والله وهِن فعلتَ فعلتُ، وغير ذلك( )، ويقصدون بذلك: أرقت وأرحت وأنرت وإياك وأما والله، وإن فعلتَ فعلتُ.
والهمزة والهاء من مُخرَج واحد، وهو أقصى الحلق( ) ، والهاء صوت مهموس، أمّا الهمزة فمختلف في أمرها، إذ قيل: هي صوت مهموس لعدم تذبذب الوترين الصوتيّين عند النطق بها، وقيل هي صوت لا مهموس ولا مجهور؛ لأنَّ وضع الوترين معها يخالف كلاً من وضع الجهر والهمس فهي تمثّل حالة ثالثة ( ). فالتقارب بين الصوتين حاصل من حيث اتحادهما في المُخرَج واتحادهما في الصفة على رأي بعض الدراسين، ولكننا نجد ابن يعيش يعلل حدوث الإبدال بين الهمزة والهاء بالتخفيف، ويبني تعليله هذا على أمرين: الأول: التقارب في المُخرَج، والثاني: التباعد في الصفات، يقول: (( فقد أبدلوها منها إبدالاً صالحاً على سبيل التخفيف، إذ الهمزة حرف شديد مستفل والهاء حرف مهموس خفيف، ومُخرَجاهما متقاربان ))( ). وجعل الدكتور حسام النعيمي سبب هذا الإبدال هو الميل إلى إخفاء الهمزة وإضعافها فجعلتْ هاءً، ثم ذكر أنَّ قبيلة طيء (( متوغلة في البداوة، فكان الأشبه أنْ تحافظ على الصوت الشديد المجهور لأنَّه أوفق لطبيعتها، إلا أنَّه لا يبعد أنْ يكون الذي بدأ هذا الإبدال في طبعِهِ لينٌ ورقّةٌ لضعفٍ أو علةٍ بحيث أثّر الصوت المهتوت على الصوت الشديد الانفجاريّ ))( ).
وأعتقد أنَّ في ذلك غرابةً، فهو تعليلٌ يركَنُ إلى الرجم بالغيب أولاً، وإلى افتراض ما هو بعيد الحصول ثانياً، ثمّ إذا كان مَن بدأ هذا الإبدالَ في طبعِهِ لينٌ ورقّةٌ لضعفٍ أو علةٍ، فما بالُ الآخرين الذين يُبدلون الهمزة هاءً ؟! ولا سيما أنهم متوغّلون في البداوة، فهل يتركون طباعَهم على مضضٍ؛ ليوافقوا طبعَ مَن به ضعفٌ أو علّةٌ ؟! ولذلك لا مناصَ في تفسير هذا الإبدال من أن تجعلَ لاتحاد الصوتين في المُخرَج حظًّا كبيرًا في تعليل حدوثه.

2. إبدال التاء هاءً:
أورد الزمخشريّ أنّ التاء تبدل إلى هاء في لغة طيء عند الوقف في قولهم: كيف البنون والبناه؟ وكيف الأخوة والأخواه( )، فهو إبدال تاء الجمع هاء في الوقف، وهو شاذّ، وقد قالوا في التابوت: التابوه، والتابوت لغة قريش، والتابوه لغة الأنصار( ).
وعلى الرغم من تباعد مُخرَجي التاء والهاء، فالتاء تخرج مما بين طرف اللسان وأصول الثنايا، والهاء من أقصى الحلق( ). إلا أنَّهما يتقاربان في الصفات، فكلاهما صوت مهموس( ). وهذا التقارب يسمح بأنْ يحدث الإبدال بين هذين الصوتين. وقد أنكر الدكتور إبراهيم أنيس هذا النوع من الإبدال بقوله: (( وليست هذه الظاهرةُ في الحقيقة قلبَ صوتٍ إلى آخرَ، بل هي حذفُ الآخر من الكلمة، وما ظنَّه القدماء (هاء) متطرفة هو في الواقع امتداد في التنفس حين الوقوف على صوت اللين الطويل أو كما يسمى عند القدماء ألف المد، وهي الظاهرة نفسها التي شاعت في الأسماء المؤنثة المفردة التي تنتهي بما يسمى بالتاء المربوطة، فليس يوقف عليها بالهاء كما ظنَّ النحاة، بل يُحذف آخرها ويمتد التنفس بما قبلها من صوت لين قصير (الفتحة) فيُخيل للسامع أنَّها تنتهي بالهاء ))( ).
وهذا الرأي يتعارضُ مع ما هو ثابتٌ في أصول التلاوة من أنّ الوقف على المختوم بالتاء المربوطة يكون بالهاء، ولا يصحّ حذف التاء والوقف بنطق الفتحة التي قبلها، ويُوْقَف على ما خُتم بتاء طويلة بنطق هذه التاء، وإن كان الموقوف عليه اسمًا رُسمتْ تاؤه طويلة في الرسم القرآنيّ مثل: بَقِيَّت، ورَحْمَت( ) .
ولم يرتضِ رأيَ إبراهيم أنيس الدكتور حسامُ النعيميُّ، فردَّه بعدة وجوه، منها أنَّ من الصعب الحكمَ على إجماع القدماء على الوقف بالهاء بأنَّه وهمٌ، وبأنَّهم لم يُفرّقوا فيما سمعوه من العرب بين الهاء والفتحة، ومن ذلك أيضاً أنَّ الوقف على ألف المدّ أو صوت اللين الطويل لا يختلط بالهاء في السمع إلا إذا اختُلستِ الألف وتحوّلتْ إلى فتحة، والحال أنَّ الذين شافهوا الأعراب الفصحاء حرصوا على تبيين أصواتهم وتدوينها، وهم عندما قرروا سماع الهاء في (البناه والمكرماه) كانوا كحالنا عندما نسمع هاء الضمير في قولنا: عصاه، في الوقف. فهل يصح لنا أنْ ندعي أنَّها ليست هاء، وإنما هي صوت مد الألف ؟!( ).
ويبدو لي أن هناك علاقةً بين الهاءِ المبدَلةِ عنها التاءُ وحرفِ المدّ الذي يأتي قبلها في أمثلة هذا المظهر اللهجيّ، وهو الألف كـ(البَنَاه) في البنات، و(الأخواه) في الأخوات، والواو كـ(التابوه) في التابوت، إذ من المعلوم في علم الصوت أنّ أصوات المدّ تهوي في مخارجها في الفم إلى ما يَقْرُب من صوت الهاء( ) ، ولما كان هذا المظهرُ اللهجيُّ لا يحدُث عند طيء إلا في حالة الوقف، فهذا يعني أنهم يجنحون بالتاء إلى الصوت القريب مُخرجًا من صوت المد الذي قبلها، وهو الهاء ، ولا سيما أنّ الهاء هو أنسب الأصوات للوقف، أليس هو ما يُؤْثَرُ في السكت، فيُسمّى هاء السكت؟
3ــ إبدال السين زاياً:
يقرر الزمخشري أنَّ السين في لغة بني كلب تبدل زاياً مع القاف خاصة فهم يقولون: مسّ زقر( ).
وقد ذكر ذلك ابن جني (ت:392ه) فقال: (( وكلب تقلب السين مع القاف خاصة زاياً، فيقولون في سقر: زقر، وفي مسَّ سقر: مس زقر))( ).
ويتفق صوتا السين والزاي في المُخرَج، فهما يخرجان (( مما بين طرف اللسان وفويق الثنايا ))( )، وهما يتفقان أيضاً في كونهما صوتين رِخْوين( ) ، غير أنهما يختلفان في كون الزاي مجهورًا، والسين مهموسًا ( )، وفي هذا التقارب كفاية لأنْ يُبْدَل أحد هذين الصوتين من الآخر، أما حصر هذا الإبدال بوجود القاف فتعليله أنَّ القاف صوت مجهور شديد مستفل غير مطبق، وقبيلة كلب من القبائل البدوية، والبدوي يميل بطبعه إلى الأصوات المجهورة، ولذلك فإنَّ السين عند أهل الحضر قد ينطق بها أهل البدو زاياً، فكأنَّ القاف- وهي صوت مجهور – قد جعلت بني كلب يقرّبون منها صوت السين بأنْ نقلوه من الهمس إلى الجهر فصار زاياً ( ).
ويبدو لي أنّ مما يُسهِّل حدوثَ هذا الإبدال كونَ صوتَي السين والزاي من أصوات الصفير، فصوتُ الصفير المهموس ــ وهو السين ــ إذا ما تحوّل إلى مجهور مع بقائه صوتَ صفير فإنه لا يصير إلا زاياً.

4 ــ إبدال اللام ميماً:
ذكر الزمخشري هذا الإبدالَ في موضعين، والمقصودُ به إبدالُ لام التعريف ميماً، وجَعَلَه في الموضع الأول لغةً لأهـــــل اليمن، قال متحدِّثًا عن لام التعريف: (( وأهل اليمن يجعلون مكانها الميم، ومنه: ليس من امبر امصيام في امسفر، وقال: يرمي ورائي بامسهم وامسلمة))( ).
وجعله في الموضع الثاني لغةً لطيء فقال وهو يتحدث عن إبدال الميم من بعض الحروف: (( ومن اللام في لغة طيء في نحو ما روى النمر بن تولب عن رسول الله (ص)، وقيل: لم يُرْوَ غيرُ هذا : ليس من امبر امصيام في امسفر ))( ). وتابع ابنُ يعيش الزمخشريَّ في اختلاف نسبة هذه اللهجة في الموضعين( ). وتسمى هذه اللهجة بالطمطمانية( )، وهي تُنسب أيضاً إلى قبائل الأزد وحِمْير( ).
أمَّا ما يتعلّق باللام والميم من حيث المُخرَج والصفة فإن مُخرَج اللام من حافة اللسان من آخرها إلى منتهى طرف اللسان من بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى مما فويق الضاحك والناب والرباعية والثنية، أمَّا مُخرَج اللام فهو من بين الشفتين( ) واللام صوت مجهور.( ) وكذلك الميم، وكلاهما من الأصوات المتوسطة بين الشدة والرخاوة ( ).
ويُلاحظ أنَّ هناك تقارباً كبيراً في الصفات بين حرفي اللام والميم، ربَّما يكون سبباً قوياً لحصول الإبدال بينها وإنْ تباعد مُخرَجاهما.
يُزاد على ذلك أنّ أدواتِ التعريف في اللغات الساميّة هي (اللامُ والنونُ والميمُ)، ( ) فبلحاظ ما بين هذه الأصوات من تقارب كبير في صفاتها من جهة، وبلحاظ التأثر والتأثير بين الأخوات الساميّات يُمكن أن نفسِّرَ هذا المظهر اللهجيّ بإبدال لام التعريف ميمًا.

تحميل الملف المرفق Download Attached File

تحميل الملف من سيرفر شبكة جامعة بابل (Paper Link on Network Server) repository publications

البحث في الموقع

Authors, Titles, Abstracts

Full Text




خيارات العرض والخدمات


وصلات مرتبطة بهذا البحث