معلومات البحث الكاملة في مستودع بيانات الجامعة

عنوان البحث(Papers / Research Title)


المظاهِرُ اللهجيّة النحويّة في كتاب المفصل


الناشر \ المحرر \ الكاتب (Author / Editor / Publisher)

 
حسن عبيد محيسن المعموري

Citation Information


حسن,عبيد,محيسن,المعموري ,المظاهِرُ اللهجيّة النحويّة في كتاب المفصل , Time 08/07/2019 17:37:20 : كلية العلوم الاسلامية

وصف الابستركت (Abstract)


يبحث عن المظاهر النحوية في كتاب المفصل للزمخشري

الوصف الكامل (Full Abstract)

المظاهِرُ اللهجيّة النحويّة في كتاب المفصل

ليس يخفى أنّ بناءَ القواعد النحويّة قام على ما توافر عند علماء العربيّة الأوائل من مادّةٍ لغويّةٍ تحصّلوا عليها باستقرائِهم كلامَ العرب من بيئاته المختلفة، واستنادًا إلى هذا الاختلاف البيئيّ نشأ الاختلافُ اللهجيُّ، ومن ثَمّ لم يصلِ النحويّون إلى قواعدَ ثابتةٍ واحدةٍ لا اختلافَ فيها، إذ كان لاختلاف اللهجات أثرُه البيّنُ في التحليل النحويّ لكلام العرب، وفي بناء قواعد لغتهم، إذ حفظ النحويّون هذه الفوارقَ اللهجيّةَ بين القبائل، واحترموها، فظهرتْ جليّةً في مؤلَّفاتهم التي تكشفُ عن فكرهم النحويّ، والزمخشريُّ ليس بِدْعًا من بين النحويّين الأوائل الذين وَعَبُوا التراثَ النحويَّ، وكتبوا فيه مصنّفاتٍ قيّمةً، وفي هذا المبحث نُلقي الضوء على ما أورده الزمخشريّ في كتابه( المفصّل) من المظاهر اللهجيّة النحويّة عند العرب، ونسبِرُ أغوارَها، متلمّسين موقفَه منها، وأثرَها في تقعيد القاعدة النحويّة عنده، مستأنسين في ذلك بما ذكره دارسوها القدماء والمحدثون، وذلك على النحو الآتي:


أولاً: (ما و لا) المشبَّهتان بـ(ليس) بين الإعمال والإهمال
شُبِّهت (ما و لا) بـ(ليس) من حيث عملُها، فهما يعملان الرفعَ في المبتدأ والنصبَ في الخبر عند دخولهما على الجملة الاسمية كما تعمل (ليس) تماماً. فإنْ لم يعملا لم يعودا مشبَّهَتين بـ(ليس) كما يظهر من قول الزمخشري: ((هذا التشبيه لغة أهل الحجاز. وأمَّا بنو تميم فيرفعون ما بعدهما على الابتداء، ويقرؤون: (ما هذا بشرٌ) [سورة يوسف:31]، إلا من درى كيف هي في المصحف. فإذا انتقض النفي بإلا أو تقدم الخبر بطل العمل فقيل: ما زيدٌ إلا منطلقٌ، ولا رجلٌ إلا أفضلُ منك، وما منطلقٌ زيدٌ، ولا أفضلُ منك رجلٌ ))( ).
وهذا مظهرٌ من مظاهر اختلاف اللهجات بين قبائل العرب، وهو أنَّ أهل الحجاز يُشبّهون (ما و لا) بـ(ليس) فيعملونهما عملَها، أمَّا بنو تميم فلا يُشَبِّهونَ ولا يُعْمِلونَ، بل يُبقون الجملةَ الاسمية على حالها قبل دخول (ما و لا)، ولذلك يحترز الزمخشري بعد ما ذكر القول السابق، فيُؤكِّد أنَّ دخولَ الباء في الخبر في قولك: ما زيدٌ بمنطلق إنما يصح على لغة أهل الحجاز، إذ لا يصحُّ أنْ نقول: زيدٌ بمنطلق( ).
وقد أفرد سيبويه لهذه المسألة باباً في كتابه فقال: (( هذا باب ما أُجْري مَجْرَى لَيْسَ في بعض المواضع بلغة أهل الحجاز، ثم يَصيرُ إلى أصله وذلك الحرفُ (ما) تقول: ما عبدُ الله أخاك، وما زيدٌ منطلقاً. وأمّا بنو تميم فيجرونها مجرى أمَّا وهل، أي لا يُعْملونها في شيء، وهو القياس، لأنَّه ليس بفعل وليس ما كلَيْسَ، ولا يكون فيها إضمار. وأمَّا أهلُ الحجاز فيشبَهونها بـلَيسَ إذ كان معناها كمعناها))( ). فسيبويه يجعل لغةَ تميمٍ هي القياسَ بناءً على المفارقة بين (ما) و(ليس) من حيث الفعليةُ والإضمارُ، ثمَّ يُقرُّ لغةَ أهل الحجاز بناءً على المشابهة في المعنى بين (ما) و(ليس).
وقد علّل ابن عصفور (ت:669ه) الاختلاف اللهجيّ في (ما) معوّلاً على ما فيها من شبهٍ، فقال: (( اعلم أنَّ (ما) لها شبهان: عامٌّ وخاصٌّ، فالعامُّ شبهُها بالحروف التي لا تخصّ الاسم بالدخول عليه، إذ هي غير خاصة بالاسم، والخاصُّ شبهُها بـ(ليس) في أنَّها للنفي، وأنَّها إنْ دخلت على المحتمل خلصته للحال كما أنَّ (ليس) كذلك، فبنو تميم راعوا الشبهَ العامَّ فلم يُعْملوها، وأهل الحجاز ونجدٍ راعوا الشبهَ الخاصَّ فأعملوها عمل ليس))( ). ولا يخفى أنّ ذلك يجري مجرى التحليل النحويّ للمظاهر اللهجيّة، والتماسِ التعليل لها على وفق سنن العرب في كلامهم، وإلا فبنو تميم وأهل الحجاز لا يُدرِكون ــ وهم ينطقون باللغة ــ شبهًا خاصًا ولا عامًا لــ(ما) بــ(ليس)، وإنّما هم يقولون على سليقتهم، وعلى النحويّين دراسة لهجتهم وتحليلها وتعليلها.
ووصف الزمخشري لغة أهل الحجاز باللغة القُدْمى وعليها جاء التنزيل في قوله تعالى: { ما هذا بشراً } [سورة يوسف:31]، و{ ما هُنَّ أمهاتِهم } [سورة المجادلة:2] ( )، ولم يختلف ابن يعيش عنه موقفاً، غيرَ أنّه صرَّح بأنَّ لغة تميم أقيس( ).
ويذكر الدكتور عبده الراجحي أنَّ نصب الخبر بـ(ما) لم يكن شائعاً في شبه الجزيرة العربية( )، مستنداً في ذلك إلى ما نُقل عن الأصمعي من أنَّه قال عن نصب الخبر بـ(ما) المشبهة بـ(ليس): (( ما سمعته في شيء من أشعار العرب ))( ).
ويظهر مما تقدَّم أنَّ الإهمال لغة تميم والإعمال لغة أهل الحجاز، غير أنَّ الكسائي حكى أنَّ الإهمال لغة تهامة ونجد( )، في حين جعل ابن عصفور نجدًا مع الحجاز في الإعمال( ).
وربط الدكتور مهدي المخزوميّ ــ رحمه الله ــ هذا المنحى اللهجيَّ بين القبائل بالتطور التاريخي للغة العربية حيث يقول: (( إنَّ (ما) الحجازية من حيث التطور التاريخي أحدث عهداً من (ما) التميمية؛ لأنَّ الحس بهذه المعاني يعني أنَّ القوم في البيئات الحجازية كانوا قد وصلوا في استعمالهم (ما) إلى مرحلة تطورية أحدث وأكمل من المرحلة التي مرَّ بها القوم في البيئات الموغلة في البداوة، وهي بيئات تميم وما والاها، وأحسوا بأنَّ الإسناد الذي انعقد عليه رفع الخبر قد انتقض بـ(ما) فنصبوا خبرها؛ لأنَّه لم يعد من اسم الأول ولا هو هو ))( ).
ولا يكاد هذا الرأيُ يُقبَل بحالٍ ما لم نفترضْ أنّ للمتكلِّم باللغة في ذلك العهد درايةً ومعرفةً بأحوال الإسناد والاسم والخبر، وهو ما لا يمكن تحقّقُه وقتَذاك. زيادةً على أنّ هذا الرأي يتناقض مع تصريح اللغويّين بأنّ لهجة الحجاز هي اللغة القُدمى( ) ، بمعنى أنها أقدم من لهجة تميم، وليست هي مرحلةً تطوريّةً عنها، ومع ذلك فإنّي لا أميل إلى أنّ إحدى اللهجتين أصلٌ للأخرى، بل أعتقد أنّ كلاً من إعمال (ما) وإهمالِها سمةٌ لهجيّةٌ يتّسمُ بها لسانُ الناطقين بها، ويعضد ذلك أنّنا نجد الإعمال والإهمال متحققَين في وقت واحد، ولكن في بيئتين لغويّتين مختلفتين، فيمكن أن يتَّحدَ زمنُ اللهجتين لا مكانُهما، ولذلك يصعب التكهّنُ بأصالة إحدى اللهجتين وفرعيّة الأخرى، ولا سيما أنّ بإمكان أيّ باحث أن يعكسَ رأيَ المخزومي تمامًا فيقول: إنّ (ما) الحجازية أقدمُ عهدًا من التميميّة، بدليل أنّ الباء تأتي مع خبر الحجازية دون خبر التميميّة، مما يعني أن حذف الباء يمثّل مرحلة تطوّريّة أحدث، وهي أوفق للبيئات المتحضرة التي تجنح إلى الخفّة. من الممكن قولُ ذلك، لكنّه لا يعدو كونَه محضَ رجمٍ بالغيب.

ثانيًا: خبر (لا) النافية للجنس
نقل الزمخشري الاختلافَ اللهجيَّ بين العرب في خبر لا النافية للجنس بنصَّين: الأول هو قوله: ((هو في قول أهل الحجاز: لا رجلَ أفضلُ منك ولا أحد خيرٌ منك، وقول حاتم:
ولا كريمَ من الولدان مصبوحُ
يحتمل أمرين: أحدهما: أنْ يترك فيه طائيته إلى اللغة الحجازية، والثاني: أنْ لا يجعل مصبوحاً خبراً ولكن صفة محمولة على محل (لا) مع المنفي ))( ).
ويظهر من هذا النص أنَّ أهل الحجاز يُظهرون خبر لا النافية للجنس، أمَّا الطائيون فإنَّهم لا يُظهرون الخبر، ولذلك يكون قوله (مصبوح) صفة محمولة على محل لا النافية للجنس واسمها، وذلك لأنَّهما في محل رفع على الابتداء، يقول سيبويه: (( واعلم أنَّ لا وما عملت فيه في موضع ابتداء، كما أنَّك إذا قلت: هل من رجلٍ، فالكلام بمنزلة اسم مرفوع مبتدأ ))( ).
ونصُّ الزمخشري الثاني هو قوله عن خبر لا النافية للجنس: (( ويحذفه الحجازيون كثيراً، فيقولون: لا أهلَ، ولا مالَ، ولا بأسَ، ولا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار. ومنه كلمة الشهادة ومعناها: لا إله في الوجود إلا الله. وبنو تميم لا يثبتونه في كلامهم أصلاً))( ).
والملاحَظ أنَّ لهجة تميم وطيء تشتركان في خصيصة لهجيّة واحدة، وهي أنَّهم لا يُثبتون خبر لا النافية للجنس في كلامهم أصلاً، أمَّا أهل الحجاز فإنَّهم يُظهرونه (يثبتونه)، ومن عاداتهم أيضاً أنَّهم يحذفونه كثيراً في كلامهم حذفًا جائزًا لا على سبيل الوجوب كما عند بني تميم.
وقد وردت الإشارة إلى اختلاف بني تميم عن أهل الحجاز في هذه المسألة في كتاب سيبويه، إذ جاء فيه أنَّ (( الدليلَ على أنَّ (لا رجل) في موضع اسم مبتدأ ، و(ما من رجلٍ) في موضع اسم مبتدأ في لغة بني تميم قولُ العرب من أهل الحجاز: لا رجلَ أفضلُ منك ))( ).
وشَرَحَ ابنُ يعيش كلامَ الزمخشري المتقدِّم، وذكر أنَّ بني تميم لا يُجيزون ظهورَ خبر لا البتة، ويقولون هو من الأصول المرفوضة( ). وذكر أنَّ أهل الحجاز يحذفون الخبر ثم قال: ((فإنْ قيل: لِمَ جاز اطراده في المنفي نحو: لا رجل ولا غلام ولا ملجأ، ولم يطرد في الإثبات نحو: إنْ مالاً وإنْ إبلاً فالجواب أنَّ عموم النفي يُنبئ عن معنى الخبر، وليس للإثبات عموم كعموم النفي، فإنْ أردت خبراً خاصاً لم يكن بُدّ من ذكره نحو: لا رجلَ في الدار؛ لأنَّ عموم النفي لا يدل على الخبر الخاص ))( ). وهذا ما يُفسر اطراد حذف الخبر في مثل كلمة الشهادة: لا إله إلا الله، وكلمة الحوقلة: لا حول ولا قوة إلا بالله، ومثل: لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار، وغيرها من العبارات التي يُراد من النفي فيها العموم لا الخصوص. وعلى هذا الأساس يقول النحويّون بحذف الخبر من عبارة (لا إله إلا الله) وأمثالها ، ويرون أنَّ تقديره أولى؛ جريًا على القاعدة في تقدير الخبر( ).
وما أركنُ إليه في هذه المسألة هو أنّ بني تميم والطائيين يحذفون الخبر فيما إذا كان مفهومًا عند المتلقي، سواءٌ أكان كونًا عامًّا أم مفهومًا من سياق الكلام، ولا يُظهرونه البتّة اعتمادًا على وضوح المراد، ولا يختلف الحجازيون في هذا المنحى سوى أنّهم قد يُظهرون الخبر لمزيد من الإيضاح في دلالة الكلام على المراد، كأنّ إظهارهم للخبرــ وهو واضحٌ من السياق ــ توكيدٌ للمعنى، أمّا إذا كان الخبر لا يَبين إلا بإظهاره، وهو ما يُعرَف بالكون الخاصّ، فلا مناصَ من التصريح به عند العرب جميعهم، بمعنى أنّه إذا (( لم يدلَّ على الخبر دليلٌ لم يَجُزْ حذفُه عند الجميع )) ( ) .
وبلحاظ ذلك لا يبدو مُقْنِعًا تعليلُ الزمخشريّ إظهارَ الخبر (مصبوح) في قول الشاعر سالفِ الذكر بأنّه يحتمل أنّ حاتمًا ترك طائيّته فأظهر الخبر( ) ؛ لأنّ (مصبوح) ليس كونًا عامًّا، بل هو خاصٌّ، إذ أراد الشاعر أن يُخبرَ بأنّه لا كريم من الأولاد يُسقى لبنًا وقتَ الصباح، فخصّص الخبرَ بوقتٍ محدّدٍ، لا يُفْهَم إلا بإظهاره، فالتصريحُ بالخبر يتطلّبه المعنى، وليس سببُه أنّ الشاعرَ ترك لهجته إلى لهجة أخرى، فجميعُ العرب يُظهرون الخبر في حال عدم وضوح المعنى بحذفه.



ثالثًا: الاستفهام عن المعرفة بـ(مَنْ)
يختلف أهل الحجاز عن بني تميم في المعرفة المستفهم عنها بـ(مَن) من حيث حركتُها الإعرابيةُ، وقد نقل هذا الاختلافَ الزمخشريُّ بقوله: (( وأمَّا المعرفة فمذهب أهل الحجاز فيه إذا كان علماً أنْ يحكيَه المستفهِمُ كما نُطق به، فيقول لمن قال: جاءني زيدٌ. مَن زيدٌ؟ ولمن قال: رأيتُ زيداً. مَن زيداً؟ ولمن قال مررتُ بزيدٍ. مَن زيدٍ؟ وإذا كان غيرَ علم رُفع لا غير، تقول لمن قال رأيت الرجلَ: مَنْ الرجلُ؟ ومذهب بني تميم أنْ يرفعوا في المعرفة البتة))( ).
ونجد سيبويه قد عقد في كتابه باباً لبيان هذا الاختلاف اللهجيّ، جاء فيه: (( هذا بابُ اختلاف العرب في الاسم المعروف الغالب إذا استفهمتَ عنه بـ(مَن): اعلم أنَّ أهل الحجاز يقولون إذا قال الرجل رأيت زيداً: مَن زيداً؟ وإذا قال: مررتُ بزيدٍ قالوا: مَن زيدٍ؟ وإذا قال: هذا عبدُ الله، قالوا: من عبدُ الله؟ وأما بنو تميم فيرفعون على كل حال. وهو أقيسُ القولين))( ).
فنلاحظ أنَّ سيبويه جعل مذهب بني تميم القياسَ؛ لأنَّه جارٍ على ما وضع النحويّون من قواعد، ومنها أنَّ قولنا: مَن زيدٌ جملة اسمية من مبتدأ وخبر، أو خبر مقدّم ومبتدأ مؤخّر، وكلاهما مرفوع.
وبعد ذلك ذكر سيبويه تعليلاً لكلِّ مظهر لهجيّ، فقال: (( فأمَّا أهل الحجاز فإنَّهم حملوا قولهم على أنَّهم حكوا ما تكلم به المسؤول كما قال بعض العرب: دَعْنا من تَمْرتان، على الحكاية لقوله: ما عنده تمرتان. وسمعتُ عربياً مرة يقول لرجل سأله فقال: أليس قُرشياً؟ فقال: ليس بقرشياً، حكاية لقوله. فجاز هذا في الاسم الذي يكون علَماً غالباً على هذا الوجه، ولا يجوز في غير الاسم الغالب كما جاز فيه، وذلك أنَّه الأكثر في كلامهم، وهو العلَم الأول الذي به يتعارفون. وإنما يُحتاج الى الصفة إذا خاف الالتباس من الأسماء الغالبة. وإنما حُكي مبادرة للمسؤول، أو توكيداً عليه أنَّه ليس يسأله عن غير هذا الذي تكلم به))( ).
ويظهر من هذا النص أنَّ سيبويه يبين في مذهب أهل الحجازــ وهو الحكاية ــ أمرين هما: ضابطُ الحكاية، وفائدتُها، فأمَّا ضابط الحكاية فهو أنَّها لا تجوز إلا في العلم الغالب؛ لأنَّه الأكثر في كلامهم وبه يتعارفون، وأمَّا فائدة الحكاية فهي كونُها مبادرةً للمسؤول، بمعنى أنَّ السائل يبادر المسؤول بما تكلَّم به تماماً، وفيها أيضًا توكيدٌ؛ لأنَّها تدلُّ على أنَّ السؤال ينحصر بما تحدث به المتكلِّم ولا يتعدّاه إلى غيره، ويأتي ذلك من إعادة العَلَم الذي جاء على لسان المتكلّم كما هو من غير تغيير في شيء، وهذا أدعى في الدلالة على أنَّ السؤال لا يُحتمل فيه أنْ يكون عن عَلَمٍ غير ما ذكره المتكلّم.
وقد بسط ابنُ يعيش القولَ في هذه المسألة، وذكر من أسباب الحكاية عند أهل الحجاز أنَّهم يحترزون بها لما قد يَعْرِض في العَلَم من التنكير بمشاركته غيرَه من الأسماء؛ فجاؤوا بلفظه لئلا يَتَوهّم المسؤولُ أنَّه يُسأل عن غير من ذكره من الأعلام( )، وهذا التعليل مفهوم من كلام سيبويه السابق، ثم ذكر ابن يعيش ما دعاهم إلى أنْ تختص الحكاية بالأعلام، ومن ذلك كثرة دوران الأعلام، وسعة استعمالها في الإخبارات والمعاملات ونحوها، ولكون الحكاية ضربًا من التغيير؛ لأنَّ فيها عدولاً عن مقتضى العامل، والأعلام مخصوصة بالتغيير، ومن ذلك أيضاً ما توهموه من تنكيرها ووجود التزاحم لها من الاسم، فجاؤوا بالحكاية؛ لإزالة توهم ذلك، وهذا ما لا يوجد في غيرها من المعارف، إذ لا يصحُّ اعتقادُ التنكير فيما فيه الألف واللام مع وجودهما، ولا فيما هو مضافٌ مع وجود الإضافة، وكذلك سائر المعارف( ).
أمَّا تعليل منحى بني تميم في هذه المسألة فقد أوضحـــــــه ابن يعيش بقوله: (( وأمَّا بنو تميم فإنَّهم جروا في ذلك على القياس في غير هذا الباب، إذ لا خلاف أنَّ مستفهماً لو ابتدأ السؤال لقال: مَن زيدٌ؟ فمَنْ مبتدأ وزيدٌ الخبر، أو زيدٌ مبتدأ ومَن الخبر. فكذلك إذا وقع السؤال جواباً لا فرق بينهما، ولأنَّ الحكاية إنَّما كانت في النكرة لتنبئ أنَّ الاستفهام إنَّما كان عن الاسم المتقدّم لا عن غيره مما يشاركه في اسمه، وليس هذا المعنى في المعرفة، فكأنَّ منزلة بني تميم منزلة مَن أتى بالكلام من غير تأكيد نحو قولك: أتاني القوم، ومنزلة أهل الحجاز منزلة مَن أتى بالتأكيد نحو قولك: أتاني القوم كلُّهم؛ لأنَّ التأكيد يُزيل توهم اللبس كما تزيله الحكاية ))( ).
ويُلاحظ أنَّ ابن يعيش استعمل التوكيد المعنوي (جاء القوم كلُّهم) لعقد الشبه بين وظيفته ووظيفة الحكاية عند أهل الحجاز. ولو أنَّه ــ فيما يبدو لي ــ استعمل التوكيد اللفظي لكان أوفق لما يتحدث عنه من المشابهة؛ لأنَّ مناط الأمر في الحكاية قائم على اللفظ ، لأنَّها إعادة اللفظ المحكي بعينه والتوكيد اللفظي هو إعادة اللفظ المراد توكيده بعينه، فالمسألة تتعلق باللفظ ، لا غير. وختام هذه المسالة أنْ نبين السبب الذي دعــــــــــــا إلى جواز الحكايــــة بــــ(مَن) دون غيرها، وهذا ما نجده في قول سيبويــــه: (( وإنما جازت الحكاية في (مَن) لأنَّهم لـ(مَن) أكثر استعمالاً، وهم مما يُغَيِّرون الأكثر في كلامهم عن حال نظائره. وإنْ أدخلت الواو والفاء في (مَن) فقلت: فمَن أو وَمَنْ، لم يكن فيما بعده إلا الرفع ))( ). فالعلة إذن هي علة كثرة الاستعمال التي أتاحت الحكاية بـ(مَن) دون غيرها، وبهذا الشكل دون غيره، لأنَّها أكثر استعمالاً في كلام العرب، وما كَثُر استعماله عندهم كَثُر تغييرهم له، اعتمادًا على فهم السامع.

رابعًا: (أمس) بين البناء والإعراب
عقد الزمخشري باباً سمّاه (الظروف) ذكر فيه ظروف المكان والزمان، ومما ذكر في هذا الباب (أمس) فقال: (( وأمس، وهي متضمنة معنى لام التعريف، مبنية على الكسر عند الحجازيين، وبنو تميم يعربونها ويمنعونها الصرف، فيقولون: ذهبَ أمسُ بما فيه، وما رأيته مُذ أمسَ ))( ).
والظاهرُ من النص أنَّ البناء مذهب أهل الحجاز، والإعراب مع عدم الصرف مذهب بني تميم، غير أنَّ سيبويه يذكر أنَّ بني تميم يعربونه إعراب ما لا ينصرف في حالة الرفع فقط ؛ لأنَّهم عدلوه عن أصله في الكلام لا عن ما ينبغي له أنْ يكون في القياس، ونقل عنهم البناء كالحجازيين في حالتي النصب والجر( ). وما نقله الزمخشري وغيره هو أنَّ بني تميم يعربون (أمس) إعراب ما لا ينصرف رفعاً بالضمة ونصباً بالفتحة وجراً بالفتحة بدل الكسرة ؛ وذلك لأنَّه معدول عن اللام فاجتمع فيه التعريف والعدل( ).
ونقل ابن هشام (ت:671ه) أنَّ تميماً افترقت على فرقتين: فمنهم من يعرب (أمس) بالضمة رفعاً وبالفتحة نصباً وجراً على إعراب مالا ينصرف، ومنهم من يُعربها بالضمة رفعاً، ويبنيها على الكسر نصباً وجراً ( ).
و(أمس) ظرف زمان، وهو عبارة عن اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه، وإنَّما بُنيَ عند أهل الحجاز لتضمنه معنى لام التعريف؛ لأنَّ الاسم إذا تضمَّن معنى الحرف بُنيَ، وكان حقُّه تسكينَ آخره على ما يقتضيه البناء، وإنَّما حُرِّك آخر (أمس) بالكسر لالتقاء الساكنين، لأنَّ السين ساكنة( ). والأصل في التقاء الساكنين أنْ يُحرَّك الساكن الأول بالكسر( ).
ويُرجّح أحدُ الباحثين أنَّ بناء (أمس) على الكسر يرجع إلى كثرة الاستعمال( ) مستنداً في ذلك إلى قول الزجاج (ت:311ه) عن (أمس): (( لكنْ لمّا كثُر في كلامهم، وكان من الظروف جعلوه على حال واحدة كما فعلوا بـ(أينَ) وألزموه الكسر؛ لأنَّ حركته ليست بحركة إعراب، وإنّما كحركة غاقِ ))( ).
وقد سبق سيبويه الزجاجَ في هذا، إذ قال: (( ولكنّه لمّا كثُر في كلامهم، وكان من الظروف تركوه على حالٍ واحدة كما فعلوا ذلك بـ(أينَ)، وكسروه كما كسروا (غاقِ) إذ كانت الحركة تدخله لغير إعراب كما أنَّ حركة (غاقِ) لغير إعراب ))( ).
وما تقدَّم من اختلاف بين الحجاز وتميم إنما هو في (أمس) التي لم تدخلها (ال) فإنْ دخلتْها، فإنها تفيد حينئذٍ العهد، وتكون (أمس) لليوم الماضي المعهود بين المتخاطبين، فمعنى قولك: فعلت هذا أمس، أنَّك فعلته في اليوم الذي كان قبل يومك، ومعنى قولك: فعلت هذا بالأمس، أنَّك فعلته في اليوم المعهود بينك وبين المخاطب، أي اليوم الذي يعلمه المخاطب، سواء كان اليوم الذي يليه يومك أم ما قبله، ومنه قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ } [سورة يونس:24]، أي الأمس الذي ازيّنت فيه الأرض، وليس المرادُ منه التنصيصَ على اليوم الذي كان قبل يومك( ).
ونستنتج ممّا سلف أنّ الزمخشريّ يرى أنّ لتميمٍ مذهبًا واحدًا في (أمس)، وهو إعرابُها إعرابَ ما لا ينصرف، وليس هو ممّن يجعل لهم مذهبين فيها، بزيادة أنهم يعربونها في حالة الرفع فقط، ويبنونها في حالتي النصب والجرّ، ويبدو لي أنّ سببَ تخصيص بنائها بحالتَي النصب والجرّ هو كونُها تُستعمل في هاتين الحالتين ظرفًا، فاختاروا لها البناء، ولا يأتي الظرف في حالة رفع، فاختاروا لها الإعراب، مع أنّي أميل إلى رأي الزمخشريّ بأن يكونَ لتميم مذهبٌ واحدٌ في (أمس)، وهو إعرابُها إعرابَ ما لا ينصرف حتى يكونَ حكمُها واحدًا من حيث كونُها معربَة في مواردها جميعها.

خامسًا: (هَلُمَّ) بين كونها فعلاً أو اسمَ فعلٍ
قال الزمخشري: (( هَلُمَّ مركبة من حرف التنبيه مع (لُمَّ)، محذوفة من(ها) ألفها عند أصحابنا، وعند الكوفيين من هل مع (أُمَّ) محذوفة همزتها، والحجازيون فيها على لفظ واحد في التثنية والجمع والتذكير والتأنيث. وبنو تميم يقولون: هَلُمَّا، هَلُمُّوا، هَلُمّي، هَلْمُمْن))( ).
ولسنا معنيين هنا بالحديث عن تركيب (هَلُمَّ)، وحقيقة أصلها بقدر ما يفيدنا ذلك في بيان اختلاف لهجات العرب بين كونها فعلاً أو اسم فعل.
ذكر النحاس أنَّ الخليل يقول: (( إنَّ أصلها (هل أؤمّ) أي: هل أقصدك))( ). وذكر ابن يعيش أنَّ الخليل يقول: (( أصله (ها لُمَّ) فـها للتنبيه و(لُمَّ) من قولهم: لمَّ اللهُ شعثَه، أي جَمَعَه))( ). والحقيقةُ أنَّ ما قاله الخليل عن (هَلُمَّ) في معجمه هو: (( وهَلُمَّ: كلمة دعوةٍ إلى شيء. التثنية والجمع والوحدان، والتأنيث والتذكير فيه سواءٌ، إلّا في لغة بني سعدٍ فإنّهم يحملونه على تصريف الفعل، فيقولون: هلُمّا وهلُمُّوا ونحو ذلك))( )، فليس في كلامه هذا ما نقله عنه النحاس ولا ابن يعيش، وربَّما يكون ابن يعيش قد أخذ ما ذكره عن الخليل من قول سيبويه: (( وأمَّا (هَلُمَّ) فزعم أنَّها حكاية في اللغتين جميعاً، كأنَّها (لُمَّ) أدخلت عليها الهاء كما أدخلت ها على ذا ))( ). إذ غالباً ما يقصد سيبويه بـ(زعم) وأمثالها الخليل ( ).
وممن نقلوا الاختلافَ في (هَلُمَّ) أبو عبيدة (ت:211ه) قال: (( هَلُمَّ في لغة أهل العالية للواحد والاثنين والجمع من الذكر والأنثى سواء... وأهل نجد يقولون للواحد: هَلُمَّ وللمرأة: هَلُمِّي، وللاثنين: هَلُمَّا، وللقوم: هَلُمُّوا، وللنساء: هَلْمُمْنَ، ويجعلونها من هَلممتُ، وأهل الحجاز لا يجعلون لها فعلاً ))( ).
أمَّا علة إلزام أهل الحجاز (هَلُمَّ) حالة واحدة، فنجد أنَّ سيبويه ذكرها في (باب ما لا تجوز فيه نون خفيفة ولا ثقيلة) قال فيه: (( وذلك الحروف التي للأمر والنهي وليست بفعل، وذلك نحو: إيهٍ وصَهْ ومَهْ وأشباهها. وهلُمَّ في لغة أهل الحجاز كذلك. ألا تراهم جعلوها للواحد والاثنين والجمع والذَّكر والأنثى سواء))( ).
فـ(هَلُمَّ) عند أهل الحجاز اسم فعل، ولذلك لم تلحقه الضمائر، ومما يُستدل به على ذلك أنَّهم لم يفكّوا تضعيف (لُمَّ) كما هي لغتهم في ما يشبهه من الأفعال في مثل: رُدَّ ومُدَّ اللذيْنِ يقولون فيهما: اردُدْ وامْدُدْ( ).
أمَّا بنو تميم فإنهم غلَّبوا جانب الفعل في (هَلُمَّ)، ولذلك فهم يُثنّون معها الضمائر ويُجمعونها( ). فعُدَّت (هَلُمَّ) عند الحجازيين اسمَ فعل، وعند التميميين فعلاً، وبناءً على هذا حصل الاختلاف اللهجيّ بينهما، غير أننا نجد ابن يعيش يرى أنَّ (هلُمَّ) عند بني تميم اسم فعل لا فعل، وله على ذلك دليل، يقول: (( واعلم أنَّ بني تميم وإنْ كانوا يجرونها مجرى الفعل في اتصال الضمير بها لشدة شبهها بالفعل وإفادتها فائدة الفعل، فهي عندهم أيضاً اسم فعل وليست مبقاة على أصلها من الفعلية قبل التركيب والضم، والذي يدل على ذلك أنَّ بني تميم يختلفون في آخر الأمر من المضاعف، فمنهم من يُتبع فيقول: رُدُّ بالضم وفِرِّ بالكسر وعضَّ بالفتح، ومنهم من يكسر على كل حال فيقول: رُدِّ وفِرِّ وعَضِّ، ومنهم من يفتح على كل حال، ثم رأيناهم كلَّهم مجتمعين على فتح الميم من (هلمَّ) ليس أحد يكسرها ولا يضمها، فدلَّ ذلك على أنَّها خرجت عن طريق الفعلية وأُخْلِصَتْ اسماً للفعل نحو: دونك وعندك ))( ).
وليس يخفى أنَّ التزام الفتح عند بني تميم على هذا الاستدلال إنما يصدق في حالة كونها لم تتصل بالضمائر (هلمَّ)، إمَّا إذا اتصلت فإنَّ الميم تُحَرّك بما يجانس الضمير المتصل بها من حركة نحو: هلمَّا، وهلمُّوا، وهلمِّي.
ومع التسليم بأنّ (هلمّ) اسم فعل عند اتصال الضمائر بها فإنّها تمثّل حالةً فريدةً في أسماء الأفعال المرتجَلة، إذ لا تكاد تجدُ اسمَ فعلٍ مرتَجَلًا إلا وهو يلازم حالةً واحدةً في التذكير والتأنيث والتثنية والجمع، وليس ثمّةَ اسمُ فعلٍ مرتجَلٌ تتّصل به الضمائر على مذهب بني تميم إلا (هلمّ).
ولعلّ الجنوحَ إلى اتساق أحكام أسماء الأفعال في الاستعمال اللغويّ والتحليل النحويّ يأخذ بأيدينا إلى الأخذ بمذهب الحجازيين والتعويل عليه؛ لأنّه لا يجعل لـ(هلمّ) خصوصيّة عن باقي أسماء الأفعال، إذ تلازم عندهم هيأة واحدة كغيرها من دون اتصال بالضمائر.

تحميل الملف المرفق Download Attached File

تحميل الملف من سيرفر شبكة جامعة بابل (Paper Link on Network Server) repository publications

البحث في الموقع

Authors, Titles, Abstracts

Full Text




خيارات العرض والخدمات


وصلات مرتبطة بهذا البحث