عنوان البحث(Papers / Research Title)
نظرية الوضع عند المحقّق الحليّ (ت 676هــ ) في ضوء كتابه معارج الأصول _مقاربة تداولية
الناشر \ المحرر \ الكاتب (Author / Editor / Publisher)
رحيم كريم علي حمزة الشريفي
Citation Information
رحيم,كريم,علي,حمزة,الشريفي ,نظرية الوضع عند المحقّق الحليّ (ت 676هــ ) في ضوء كتابه معارج الأصول _مقاربة تداولية , Time 08/07/2019 13:58:33 : كلية العلوم الاسلامية
وصف الابستركت (Abstract)
نظرية الوضع عند المحقّق الحليّ (ت 676هــ ) في ضوء كتابه معارج الأصول
الوصف الكامل (Full Abstract)
نظرية الوضع عند المحقّق الحليّ (ت 676هــ ) في ضوء كتابه معارج الأصول مقاربة تداولية
أ.م.د رحيم كريم الشَّريفيّ أ.م. د حسين علي حسين الفتليّ جامعة بابل /كلية الدراسات القرآنية وزارة التربية/ الكلية التربوية /بابل المقدمـــــــــة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على مصطفاه النبيّ الأمين محمد وعلى آله الأطيبين الأطهرين أمّا بعد، فإنّ اللّغة العربية – لغة القرآن الكريم – اصطفاها الله (عزّ وجلّ) وانتقاها من سائر اللغات لتكون دلالة وعنوانًا على كتابه، ومن هنا تنافس المتنافسون من علماء وباحثين ودارسين في استكناه هذه اللغة، وسبر دقائقها وأعماقها واستخراج دررها ولآلئها. ومن الذين انبروا الى دراسة اللغة دراسة عميقة كاشفين عن أسرارها، وموضحين دقائقها علماء أصول اللغة، فقد توصّلوا إلى حقائق وشذرات في الدرس اللغوي لم يلتفت إليها اللغويون والنحويون والبلاغيون، ويبدو أنّ ثقل المهمة وضخامة العمل الذي يقتضي استنباط الأحكام الشرعية من كتاب الله ( جلّ جلاله)، بوصفه الأصل العظيم والرئيس في استنباط الأحكام الشرعية، جعلهم يستنبطون دقائق اللغة والإحاطة بأسرارها فعظمة البحث والاستنباط يتأتى من عظم المهمة والأمر، ومن هؤلاء الذين كان لهم السهم الوافر والقدح المعلّى في دراسة اللغة من أجل الوصول إلى أقصى الغايات في استنباط الأحكام الشرعية الفقيه والأصوليّ المحقق الحليّ. جاء هذا البحث ليميط اللثام عن نظرية لغويّة اختص الأصوليون بمعالجتها، ناهيك عن تسميتها ألا وهي (نظرية الوضع) القائمة على دراسة العلاقة بين اللفظ والمعنى، وما يترشح منها من علاقات دلالية كـ( الحقيقة والمجاز)، و (الترادف)، و (المشترك اللفظي)، و(العموم والخصوص) وغيرها. ومن أجل استجلاء هذه النظرية والعلاقات الدلالية التي تنتظم فيها ، كان لكتاب المحقّق الحلّيّ( معارج الأصول) الأرض الخصبة لاستكناه هذه النظرية ولوازمها، وهو من الكتب التي لم يُعنَ بها الدارسون , على الرغم من أنّه يمثّل مرحلة ناضجة من مراحل الدرس الأصولي في الثقافة العربية الإسلامية عامة، والثقافة الحلية خاصةً ، ولاسيّما أنّ المحقق الحليّ من علماء القرن السابع الهجري الذي يعد عصر التأليف في الفقه والأصول وعلم الكلام. وبعد قراءة الكتاب وجمع المادة ولا سيّما مباحث الألفاظ ، شرعنا بوضع خطة البحث ، فجاء في مقدمة وثلاثة مطالب كان المطلب الأول بعنوان : الخطاب وعلاقة اللفظ بالمعنى ، وجاء المطلب الثاني بعنوان الوضع والحقيقة والمجاز ،وجاء المطلب الثالث بعنوان الوضع والعموم والخصوص وختم البحث بخاتمة وأهم النتائج. والله نسأل أن يوفقنا لما فيه خدمة لكتابه المجيد ولغته المصطفاة المنتقاة. الباحثان
التمهيــــد: مدخل تعريفي بألفاظ موضوع البحث أولًا : تحديد المفاهيم (الوضع ، مباحث الألفاظ ) الوضع في اللغة : قبل أن نلج باب هذه النظرية عند المحقق الحليّ لابُدَّ من إضاءة لمفهوم( الوضع) بوصفه ركنًا رئيسًا في مباحث الألفاظ ( المباديء اللغوية ) عند الأصوليين . جاء في مقاييس اللغة في مادة ( وَضَعَ ) " الْواوُ وَالضَّادُ والْعَينُ: أَصلٌ واحدٌ يدلُّ على الْخفضِ لِلشَّيءِ وحطِّهِ، ووضَعتهُ بالْأَرْضِ وَضْعًا، وَوَضَعَتِ الْمَرْأَةُ وَلَدَهَا، ووُضِعَ فِي تِجارَتِهِ يُوضَعُ: خَسِرَ. وَالوضائِعُ: قومٌ يُنقلُونَ مِنْ أَرضٍ إِلَى أَرضٍ يَسكُنونَ بِهِ " ( ) ويرى الراغب الأصفهاني ( ت 502 ه ) أنّ الوضع أعمُّ من الحطّ، ومنه: المَوْضِعُ. ، ويقال ذلك في الحَمْل والحِمْل، ويقال: وَضَعَتِ الحملَ فهو مَوْضُوعٌ، و الوضع أيضاً الإيجاد والخلق، ووَضَعَتِ المرأةُ الحمل وَضْعاً( ). وقد اقترب ابن منظور في بيان دلالة (الوضع) اللغوية ، قال : " وضَعَ الشيءَ وَضْعاً اخْتَلَقَه ، وتَواضَعَ القومُ عَلَى الشَّيْءِ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ ؛ وأَوْضَعْتُه فِي الأَمر إِذا وافَقْتَه فِيهِ عَلَى شَيْءٍ " ( ) . نتحصل من كلمات اللغويين أنّ الوضعَ هو الانتقال والحركة من جهة ، والإيجاد والخلق من جهة أخرى ، فضلاً عن الاتفاق والاجتماع على الأمر ، وبتضافر هذه الدلالات تترشّح لنا دلالةٌ رئيسة مركزية للوضع ، هي : ارتباط الشيء واتصاله بشيء آخر . الوضع اصطلاحاً : الوضع: جعل اللفظ بإزاء المعنى، وتخصيص شيء بشيء متى أطلق، أو أحس الشيء الأول، فهم منه الشيء الثاني، والمراد بالإطلاق: استعمال اللفظ وإرادة المعنى، والإحساس: استعمال اللفظ، أعمّ من أن يكون فيه إرادة المعنى أولًا، وفي اصطلاح الحكماء: هو هيأةٌ عارضة للشيء بسبب نسبتين: نسبة أجزاء بعضها إلى بعض، ونسبة أجزائه إلى الأمور الخارجية عنه، كالقيام والقعود، فإنَّ كلاًّ منهما هيأة عارضة للشخص بسبب نسبة أعضائه بعضها إلى بعض، وإلى الأمور الخارجية عنه( ) .وقال التهانوي (ت 1158هــ):" وعند أهل العربية عبارة عن تعيين الشيء للدلالة على شيء والشيء الأول هو الموضوع لفظاً كان أو غيره كالخطّ والعقد والنصب والإشارة والهيأة ، والشيء الثاني هو الموضوع له ، فهذا تعريف لمطلق الوضع لا لوضع اللفظ " ( ) . ولا يخفى أنّ التهانوي قد ذكر أصناف الدلالات المعبرة عن البيان جاعلًا اللفظ الأساس في الإفهام ، وأشار الى نوعيّ الوضع الشخصيّ ، والنوعيّ . و تكاد تعريفات الوضع تتضافر في هذا الفهم اللّغوي والاصطلاحي, وهو جعل اللفظ دليلاً على المعنى( ), وكل لفظ وضع لمعنى( ), ونحو اختصاص اللفظ بالمعنى, وارتباط خاص بينهما( ). وهو وسيلة لإيجاد العلاقة اللغوية, وتعيين شيء للدلالة على شيء بنفسه , أي: جعله بإزائه( ). وتعدّ قضية الوضع قمة الدراسات الدلالية عند الأصوليين, وهي الأساس الذي بنوا عليه فكرتهم في الألفاظ والمعاني , فقد بحثوا في الواضع والموضوع و الموضوع له, والطريق الذي يعرف بها الوضع, كما بحثوا في سبب الوضع , وتبدو أهمية قضية الوضع في صلتها بقضايا لغويّة ودلالية أخرى, مثل الحقيقة والمجاز والترادف والاشتراك اللفظي( ). مباحث الألفاظ أبدع الأصوليون و تجاوزوا بدراستهم للألفاظ ما لا يتيسر للنحويين ، والبلاغيين والمعجميين إذ استعانوا كثيرًا بالاستعمال اللغويّ ، والفهم العرفيّ ، ومرتكزات العقلاء في كيفية الإفادة من اللغة بصورة عامة ، ولمّا كان اهتمام الأصوليين باشتقاق قوانين الاستنباط ووضعها في النص للوصول الى الموقف العملي ، فكان لابُدّ لهم من أنْ يضعوا منهجًا واضحًا لمنهج ويفيدوا من أبحاث اللغويين والنحويين والفقهاء ، وتوظيفها في رفد هذا المنهج ، وتقويته من أجل معرفة دلالات النص ، وسبر غوره ، ومن هنا افتتحوا في أغلب مؤلفاتهم في علم أصول الفقه بمباحث لغويّة ينتظم الجزء الأكبر منها في العلاقة بين اللّفظ والمعنى ، وبحوث الوضع ، ومباحث الأمر والنهي وأقسامها ، فضلاً عن البحوث المرتبطة بأحوال الحروف والهيآت والمشتقات التي شغلت مساحة واسعة في الدرس اللّغوي ، وهي تمثل بنية أصول الفقه في الخطاب الشرعي ، سمّوها بـالمباديء اللغويّة ، أو الأصول اللّفظية ، أو مباحث الألفاظ .( ) وهي بحسب قول الدكتور عبد الأمير زاهد : " مباحث تهدف الى ضبط دلالة اللفظ على المعنى في اللغة "( )، ولا يخفى أنّ أبحاثهم هي أقرب إلى اللغة وفلسفتها وفقهها منها إلى البحث النحويّ والبلاغيّ ، لأنّ النحويين لم يبحثوا فيما بين أيدينا من نحوهم في الجملة وطرق تأليفها أصلاً ، والذي بحثوه هو محلها الإعرابي فلم تكن فيهم حاجة الى البحث في دوال النسب ، والتأليف ، والصيغة ، والأداة ، والتركيب ، لذلك نقلوها من وظيفة إحداث المعنى النسبي الرابط الى وظيفة إحداث الأثر الإعرابي في أواخرِ الكلم ( ). وعود على بدء فإنّ اهتمام الأصوليين بدلالات الألفاظ ، هو من أجل الوصول الى مقاربات واضحة المعالم لفهم المدلولات ، والكشف عنها ، غايتهم في ذلك الإفادة منها في استنباط الأحكام الشرعية ، ومن هنا أدركوا أنّ الدلالة نوعان ، الأولى : من جهة كونها ألفاظاً وعبارات مطلقة وهي ( الدلالة الأصلية ) الرئيسة أو المحوريّة والأخرى : من جهة كونها ألفاظًا وعبارات مقيّدة دالة على معانٍ خادمة وهي الدلالة التابعة( )، وهذه الدلالة هي التي تُستثمر بمعونة القرائن اللّغوية وغير اللّغوية ، التي عني بها الأصوليون عناية فائقة ، لِما لها من أهمية في الإحاطة بمراد النص وقصديته ( ). ثانيًا : المحقق الحليّ في سطور حظي المحقق الحليّ بترجمة وافية صحيحة من لدن تلميذه الوفيّ النجيب والرجالي ابن داوود الحليّ ( ت710 ه) ، إذْ قال : " جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الحليّ ، شيخنا نجم الدين أبو القاسم ، المحقق المدقق ، الإمام العلّامة ، واحد عصره ، كان أكبر أهل زمانه وأقومهم بالحجج ، وأسرعهم استحضاراً ، قرأتُ عليه ، ورباني صغيراً ، وكان له عليّ إحسان عظيم والتفات ، وأجاز لي جميع ما صنفه وقرأه ورواه وكل ما يصح روايته عنه " ( ) توفي رحمه الله في صبح يوم الخميس 13 ربيع الآخر سنة( 676ه). له تصانيف حسنة محققة محررة عذبة ، منها : كتاب شرائع الاسلام ، كتاب نكت النهاية وغيرها ، وله تلاميذ فقهاء وفضلاء( ) ، وثمة خلاف في مكان دفنه وتربته، ففي لؤلؤة البحرين حمل إلى مشهد أمير المؤمنين (عليه السلام ) ودفن هناك ( قُدِس سره ) ( ) ، وفي منتهى المقال : الشائع أنَّ قبرَه بالحلّة وهو مزار معروف وعليه قبة وله خدام يتوارثون ذلك ( ). يمكن أنْ يكون دفن بالحلة أولًا , ثم نقل إلى النجف كما جرى للسيدين المرتضى والرضي والله أعلم . ومهما يكن من أمر فالشيخ المدقق المحقق كان سلطان العلماء في زمانه وإليه انتهت رئاسة الشيعة الإمامية وحضر مجلس درسه بالحلة سلطان الحكماء والمتألهين الخواجة نصير الدين محمد الطوسي (أنار الله برهانه) ، وجاء في أمل الآمل : الشيخ الأجل المحقق جعفر بن الحسن بن يحيى بن الحسن بن سعيد الحليّ الملقّب بالمحقق كان محقق الفضلاء ، ومدقق العلماء ، وحاله في الفضل والعلم والقدر والثقة والجلالة والتحقيق والتدقيق والفصاحة والشعر والأدب والإنشاء أشهر منْ أن يُذكر وأظهر من أن يسطر( ). ثالثاً : المعارج في أصول الفقه المعارج مفاعلٌ مفردُهُ مَعْرَج بمعنى: الْمَصْعَدُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ? تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ? [سورة المعارج: من الآية 4]، ويدل على السمو والارتقاء( ) والدَّرَج ، قَالَ قَتَادَةُ: ذِي المَعارج ذِي الْفَوَاضِلِ والنِّعَم؛ وَقِيلَ: مَعارج الْمَلَائِكَةِ وَهِيَ مَصاعِدها الَّتِي تَصْعَد فِيهَا وتعرُج فِيهَا ( ) . وهذه التسمية اندكت بكتابٍ للمحقق الحليّ في أصول الفقه وسمه بـ ( المعارج في أصول الفقه ) ؛ ليكون مَصعداً ومرقاةً الى علم أصول الفقه ، الذي أبان عنه المحقِّق فقال : " لمّا كانَ البحثُ في هذا الكتاب إنّما هو بحث في أصول الفقه ، لم يكن بد من معرفة فائدة هاتين اللفظتين : في الأصل : هو ما يبتني عليه الشيء ويتفرع عليه ، والفقه : هو المعرفة بقصد المتكلم وفي عرف الفقهاء : هو جملة من العلم بأحكام شرعية عملية مستدل على أعيانها " ( ) ويرى أنّ " أصول الفقه في الاصطلاح هي : طرق الفقه على الإجمال " ( ) ، ويظهر في ضوء رؤية المحقق لهذا العلم أنَّها القواعد والأصول والضوابط التي يرتكز عليها الفقيه في استنباط الحكم الشرعي . إنَّ مصطلح أصول الفقه مركَّبٌ لفظيٌّ يتألف من ركنين : أصولٍ ، وفقهٍ وهو علمٌ نقليٌّ عقليُّ بلحاظ أنّ المعرفة الدينية تعتمد على النقل والنص، وهما يوصلان بالتتبع إلى النص القرآني وهو علمٌ لزوميّ لمن أراد أنْ يخوضَ في علومٍ شتى كـ( علم الكلام ، وعلم الخلاف ــــ العلم بالمذاهب الإسلامية ـــــ ، وعلم الأديان ، وعلم السيرة ، وعلم الرجال ، وعلم الدراية ، وعلم الحديث ، وغيرها ) ( ) . ومن الجدير بالذكر أنّ كتاب ( المعارج في أصول الفقه ) هو استجابة لطلب جماعة من أصحاب المحقّق أرادوا منه أنْ يعمل كتاباً في الأصول ، قال : " فإنّه تكرر من جماعة من الأصحاب - أيدهم الله بعصمته ، وشملهم بعام رحمته - التماس مختصر في الأصول ، مشتمل على المهم من مطالبه ، غير بالغ في الإطالة إلى حد يصعب على طالبه فأجبتهم إلى ذلك ، مقتصرًا على ما لابُدّ من الاعتناء به ، غير متطاول إلى إطالة مسائله ، وتغليق مذاهبه " ( ) وسنحاول في هذا البحث أنْ نفلي أهم العلاقات الدلالية التي تتصل بنظرية الوضع للوصول إلى مقاربة نخالها نافعةً في التعرِّف على وجهة نظر المحقق الحليّ من هذه النظرية ، ومن أجل تماميّة البحث ، ولملمة فقراته ، جعلناه ثلاثة مطالب هي : المطلب الأول : الخطاب وعلاقة اللفظ بالمعنى حرص المحقق الحليّ على استجلاء العلاقة بين اللفظ والمعنى الى بيان حدّ الخطاب والكلام مبينًا قسميه ، فالخطاب عنده " هو الكلام الذي قصد به مواجهة الغير" ( )، ومن هنا فإنّه يؤسس لمرتكزات الخطاب الثلاثة ، المخاطِب ، والخِطاب ، والمخاطَب ، فضلًا عن ذلك فإنَّ التعريف يشير الى أنَّ الخطابَ هو الكلام المفيد فائدة يحسن السكوت عليها ، قال ابن مالك( ) : كلامنا لفظٌ مفيدٌ كاستقم واسمٌ وفعلٌ ثم حرف الكلم زد على ذلك نلمح من التعريف لفظ قصد به النزول على إرادة المتكلم في إيصال المعلومة الى المخاطَب ، من أجل التواصل والتحاور معه ، ومن هنا فإنّ المحقق الحليّ من القائلين بنظرية ( التعهد والالتزام ) في طبيعة العلاقة بين اللفظ والمعنى ، ويرى أنّ الكلامَ هو ما انتظم من حرفين فصاعدًا من الحروف المسموعة المتواضع عليها إذا صدرت من ناظم واحد ( ) . ولا يخفى قصور هذا التعريف من جهتين ، الأولى : إنّ الكلام قد يكون من كلمتين ولا يُسمَّى كلامًا ، فيكون عبارة عن أصوات بلا معنى ، والأخرى : إنّ حصر الكلام بحرفين فصاعدًا تقييد، إذ قد يكون الكلام من حرفٍ واحد ، نحو : فِ ، رَ، عِ وغيرها . وقد ذكر المحقق الحليّ شرطين لصّحة الخطاب ؛ الأول : الإفادةُ ، والثاني : المواضعة مرجحًا الأول ، وهو الصحيح ،ومبطلًا الثاني ، لأنّ المواضعةَ تقسم على قسمين: المهمل والمستعمل ، وهو نقص في منطقية الخطاب . والذي يبدو في ضوء ما عرضناه أنَّ المحقّق الحليّ بحسب النظريات التي تحدّثت حول الوضع وأسباب نشأته وتطوره ، أنّه يقول بنظرية أنّ الواضع هو الإنسان الأول واضطرته الحاجة الى اختراع علاقة بين الألفاظ والمعاني ، وهو قول ابن فارس : " إنّ أصل اللغة هو تواضع واصطلاح لا وحيّ وتوقيف "( )، وهناك ثلاث نظريات هي : الأولى : أنّ الألفاظ تدل على معانيها بذاتها دلالة طبيعية ، وذلك انطلاقًا من فطرة الانسان وحاجته المادية والفعلية ، فكانت اللغة تكوينية، وقد نسب هذا الرأي الى سليمان الصيمريّ المعتزليّ( ) . الثانية: إنّ الألفاظ إنّما تدل على معانيها بوضع أعلى قدرة من البشر وهو الله تعالى ، وهو رأي أبي الحسن الأشعري ، وأهل الظاهر من الأصوليين ، فالواضع هو الله تعالى ." وإنّ وَاضَعهُ مُتَلَقًّى لنا من جهة التوقيف الإلهي ، إمّا بالوحيّ أو بأن يخلق الله الأصوات والحروف ويُسْمعها لواحد ، أو جماعة ، ويخلق له أو لهم العلم الضروري إنْ قصدت للدلالة على المعانيّ " ( )، وهذا ما ذهب إليه الشيخ محمد حسين النائينيّ ( ). الثالثة : إنّ الواضعَ هو الانسان الأول ، وقد اضطرته الحاجة الى اختراع علاقة بين الألفاظ والمعانيّ ، وهو قول ابن فارس ( ت395ه) ( )، ومن هنا فإنّ المحقق الحليّ على الرغم من اقتصاد تعريفه للخطاب ، والكلام ، فإنّنا نجزم قاطعين أنّه من الذين أسسوا لمبدأ ( التعهد والالتزام ) في الوضع وهذا ما ذهب اليه السيّد الخوئيّ( ) ، وبناءً على هذه النظرية تكون الدلالة الوضعية دلالة تصديقية دائماً ، فلا مجالَ للدلالة التصورية ، لأنّ هذا المبدأ قائمٌ ــــــ بحسب تعريف المحقق الحليّ للخطاب ــــــ على مسألتين مهمتين : الأولى : أنّه لا يراد من وضع اللفظ المعنى ، بل المراد إيصال المفهوم الى ذهن السامع وهو ما عبّر عنه موضحًا بأنّ " منهم مَنْ شرط الإفادة " ( ) ، وهذا ما بشرت به التداولية الحديثة من حصول العلاقة بين الدال والمتكلم ، فالمتكلم متى ما قصد تفهيم معنى ما ، أتى باللفظ الدال عليه ، وهكذا يكون مدلول اللفظ هو قصد تفهيم المعنى ( ) ، ويبدو أنّ الفعل الكلامي بوصفه إرهاصًا تداوليًا له أثر واضح في عملية التواصل الخطابيّ ، فهو يمثل حدثًا كلاميًا في التواصل الإنساني يجسد المعنى ، لما له من قوّة إنجازيّة تأثيرية ( ) االثانية : القصديّة في الوضع ، بمعنى أنَّ الواضع لابُدَّ من أنّْ يكون مريدًا وقاصدًا ، ومتعهدًا وملتزمًا بإرادة إيصال المفهوم للمخاطَب وإحضاره له ، وهذا ما نذهب إليه ، لأنّ المتكلمَ لابُدَّ من أنْ يكون واعيًّا ومريدًا إذا ألقى كلامه ، وبخلاف ذلك تتهاوى عملية الخطاب وتخرج من انسانيتها ، وعقلانيتها( ). هذا الفهم اللغويّ الناضج ، أفاد منه التداوليون المحدثون ، فالقصديّة الأصلية أو الداخلية في فكر المتكلم تتحول الى كلمات وجمل وعلامات ورموز ، إذا ما أحسن النطق بها ، ستكون ذا معنى ، فإنّها تضطمّ على قصديّة مشتقة من أفكار المتكلم ، زد على ذلك أنّها لا تنطوي على مجرد معنى لغويّ تقليديّ للكلمات والجمل في اللغة لتأدية فعل كلاميّ يكون مشبعًا بالقصد والإرادة والإيجاز ( ) ، وهذا ما بشرت به التداوليّة الحديثة ، ولا سيّما مباديء التعاون الحواريّ ( ) ، وهي ( الكم ، والكيف ، والنوع ، والطريقة ) ، إذ راعت فيها المخاطَب ( بفتح الطاء) بوصفه متلقيّا للنص من جهة ذهنية ، وقدرته على فهم النص ، فالمتكلم لا يمكنه أنْ يقول بلا حجّة فلا بُدّ منْ أنْ يتبع المتكلم الغاية من أجل المخاطب فيعمل على إظهار أمر يريده المتكلَّم ، ويمكن إيجاز مفهوم الاستلزام التخاطبيّ أو التعاون الحواريّ بأنّ " عمل المعنى أو لزوم الشيء عن طريق قول شيء آخر ، أو قل : إنّه شيء يعنيه المتكلم ، ويوميء به ويقترحه ، ولا يكون جزءًا ممّا تعنيه الجملة بصورة حرفيّة " ( ) ونلاحظ أنّ هذا المبدأ (العهد والالتزام) يهتم بثلاثة أركان هي: اللفظ مما يحمله من معنى، والمتكلّم (المخاطِب) أي (المريد والمتعهد والملتزم بإيصال المفهوم) والمستقبل السامع أي المتلقي (المخاطَب)، فالعهدية هي محور هذا المبدأ، فقصد الواضع له أثر بالغ في صحة الخطاب وسلامته، ومن هنا حرص المحقق الحليّ على شرط القصد في تعريف (الكلام الذي قصد به مواجهة الغير) بوصفه شرطًا رئيسًا في فهم النصّ اللغويّ، ومن ثَم الاعتماد عليه في الوصول إلى الحكم الشرعيّ. ويرى المحقق الحليّ أنّ الكلامَ إمّا مهملًا وإمّا مستعملًا ، فالأوّل:" ما لم يوضع في اللغة شيء" ( ) والثاني : "المستعمل: إمّا لا يستقلّ بالمفهوميّة وهو الحرف، وإمّا أن يستقلّ؛ فإن دلّ على الزمان المعيّن فهو الفعل، وإن لم يدلّ فهو الاسم" ( ). ويظهر أنّ الإمام علي عليه السلام هو أوّل مَن حدّ الكلام في صحيفته المباركة التي دفع بها إلى أبي الأسود الدؤلي إذ قال: " بسم الله الرحمن الرحيم الكلام كلّه اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمّى والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى، والحرف ما أنبأ عن معنًى ليس باسم ولا فعل".( ) وتقسيم المحقق للكلام هو تقسيم النحويين، قال سيبويه: " فالكَلِم: اسمٌ، وفِعْلٌ، وحَرْفٌ جاء لمعنّى ليس باسم ولا فعل ".( ) ، وقال ابن هشام الأنصاريّ: "الكلِمةُ ... ثَلَاثَة أَنْوَاع الِاسْم وَالْفِعْل والحرف".( ) ومن الجدير بالإشارة أنّ المحقق قسّم الكلام ثلاثة أقسام: حرف، وفعل، واسم مبيّناً أنّ الحرف ذو دلالة ناقصة (جزئية) لا يستقلّ بالمفهوميّة، بمعنى أنّ المحقق يرى أنّ السياق ونظم الكلام هو الذي يجعل الحرف مستقلاً بالمفهوميّة والتخصيصيّة وهو تصوّر لغويّ حاذق، قال الرضيّ: " والحرف كلمة دلّت على معنى ثابت في لفظ غيرها".( ) المطلب الثاني: الوضع والحقيقة والمجاز الحقيقة والمجاز لفظان متقابلان ، وقد جرت العادة بالبحث عن الحقيقة مع بحث المجاز ، لما كان بينهما من شبه التقابل . الحقيقة لغةً : " حقق : الحق نقيض الباطل ... وحق الأمر يحق ويحق حقاً وحقوقاً صار حقاً وثبت ، والحقيقة ما يصير إليه حق الأمر ووجوبه وبلغ حقيقة الأمر أي يقين شأنه والحقيقة ما يحق عليه أنْ يحميه وجمعها الحقائق " ( ) .والمجاز لغةً : " جُزْتُ الطريق جوازاً ومجازاً و جُؤوزاً ، والمجاز المصدر ، والموضع والمجازاة أيضاً ، وجاوزته جوازاً في معنى : جزته " ( ) . أمّا في الاصطلاح : فـــــــــ" الحقيقة أنْ يُقَرَّ اللفظ على أصله في اللغة ، و( المجاز ) أنْ يُزال عن موضعه ويستعمل في غير ما وضع له ، فيقال ( أسد ) ويراد شجاع ، و(بَحْر) ويراد جَواد " ( ). تحدّث المحقق الحليّ في المقدمة الثالثة عن الحقيقة والمجاز، وقد اشتملت هذه المقدّمة على مسائل، ما يهمّنا منها تعريفه للحقيقة والمجاز، قال: " أظهر ما قيل في الحقيقة هي كل لفظة أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به ، والمجاز : هو كل لفظة أفيد بها غير ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به لعلاقة بينهما " .( ) ولا يخفى أنّ المحقق قد تابع الأصوليين في تصوّر الفرق بين المصطلحين بلحاظ الوضع ، فهو المائز في الفرق بينهما، فإن كان الوضعُ في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به حاكياً عن دلالة اللفظ كان حقيقياً، وإنْ كان الوضع في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به غير حاكٍ عنه كان مجازاً، وهذا الفرق بين الحقيقة والمجاز، فهو: ( محلّ وفاق) بين الأصوليين.( ) ثمّ أشار إلى الفروق المائزة بين الحقيقة والمجاز ورجّح اثنين منهما، قال: " فيما يفصل به بينهما، وهو إمّا بنص أهل اللغة ، بأن يقولوا هذا حقيقة ، وذاك مجاز ، أو بالاستدلال بعوائدهم كأن يسبق إلى أذهانهم عند سماع اللفظ المعنى من دون قرينة ".( ) ويبدو أنّ الرأي الأوّل مفاده أنَّ اللغويين ينصون على كون اللفظ حقيقةً أو مجازاً في ضوء تتبعهم للتطور الدلاليّ لألفاظ العربيّة، ومقدرتهم على حقيقة اللفظ من جهة ومجازيّته من جهة أخرى، والثاني: أنّ السامعَ يسبق ذهنه إلى إرادة الحقيقة عند سماعه اللفظ من المتكلّم من دون قرينة. وهذان الشرطان عبّر عنهما الأصوليّون بـ(التبادر). وذكر فروقاً أُخر، منها: الاطراد ( ) ؛ لكونها أصبحت شائعة في بيئة المتخاطبين، وصحة التصرف فيها تثنية وجمعاً، زد على ذلك استعمال أصل اللغة علميّاً، وتعلّق اللفظ بما يستحيل تعلّقها به دلالة على المجاز، وهو ما عبّر عنه بـ( عدم صحة السلب ... وعدمه). كقوله تعالى : ? وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ? [ سورة يوسف: من الآية 82] فالمعنى المطابق للنصّ القرآني غير مراد، بل المراد هو المعنى السياقي أو المقامي أو العرفي، فإنّ العرف يفهم أنّ المقصود من الآية الشريفة هو سؤال أهل القرية، وذلك لمناسبة عقلية فإنّ العقل يحكم بأنّ القرية لا يمكن أن تسأل، إنّما الذي يُسأل ويجيب هم قاطنوها.( ) والذي يبدو أنّ المحقق الحليّ لم يُبدِ رأياً في الفروق الأربع التي ذكرها، إلّا أنّه لم يشجّعها، قال: " وفي الكلّ نظر".( ) وقد فطن المحقق إلى المسألة الأخرى التي لها مسيس بالحقيقة والمجاز، وهي مسألة إمكان وقوع المجاز ووجوده، قال: " أكثر الناس على إمكان وجوده ومنعه قوم إمكاناً، وآخرون وقوعاً" ( ) . ويرى المحقق الحلي وفاقاً للأصوليين أنّ " المجاز ممكن الوجود في خطاب الله تعالى ، وموجود ، خلافا لأهل الظاهر .لنا : قوله تعالى : ? جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ ? [ سورة الكهف / من الآية 77 ] و ? وَجَاءَ رَبُّكَ ? [ سورة الفجر/ من الآية 22 ] و ? خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ? [ سورة ص/من الآية 75] وليست هذه موضوعة في اللغة لما أراده الله تعالى بها قطعًا ، ولا الشارع نقلها ، لعدم سبق أذهان أهل الشرع عند اطلاقها إلى المراد بها ، فتعيّن أنْ يكون مجازًا " ( )، ولا يخفى أنّ المحقق يردّ على المجسّمة والمشبّهة الذين يرون أنّ لله يداً . وقد جعل المحقق الحليّ القرينة في المجاز مانعةً من تعمية اللفظ وغموضه، قال: " احتجّوا بأن لو تجوز لكان ملغزاً معميّاً، وجوابه أنّه لا إلغاز مع القرينة".( ) قال محمد رضا المظفر: " تجد صحة استعمال الأسد في الرجل الشجاع مجازاً، وإن منع الواضع، ومؤيّد ذلك اتّفاق اللغات المختلفة غالباً على المعاني المجازيّة، فترى في كلّ لغة يعبّر عن الرجل الشجاع باللفظ الموضوع للأسد وهكذا في كثير من المجازات الشائعة عند البشر".( ) ومن لوازم هذا المطلب (الحقيقة والمجاز) التي ذكرها المحقق الحلّيّ في معارجه ضمن المقدمة الثالثة، الحقيقة العرفيّة والحقيقة الشرعيّة، والمشترك اللفظيّ ( استعمال اللفظ في معنيين أو أكثر)، ووفاقاً لصنيعه سنضمن هذا المطلب هذين الأمرين:
أولاً ، الحقيقة العرفيّة والحقيقة الشرعيّة: الحقيقة العرفيّة هي اللفظ الذي نُقل عن موضوعه الأصلي إلى غيره لغلبة الاستعمال، وصار الوضع في عرف الاستعمال عبارة عن العادل، كالغائط فإنّه في الأصل يطلق على المكان الواسع المنخفض من الأرض ثمّ أصبح يطلق على الخارج من الإنسان.( ) والحقيقة الشرعيّة هي كلّ لفظ وضع لمعنى في اللغة، ثمّ استُعمل في الشرع لمعنى آخر مع هجران الاسم اللغويّ عن المسمّى بحيث لا يسبق إلى الفهم الوضع الأوّل، مثل الصلاة فإنّها وضعت في اللغة للدعاء ثمّ صارت في الشرع عبارة عن الهيأة المعلومة.( ) تنبّه المحقّق الحليّ إلى هاتين الحقيقتين العرفية، والشرعية ، قال: " اللفظ إمّا أنْ يستفاد وضعه للمعنى بالشرع أو بالوضع ، والأول هو الحقيقة الشرعية ، والثاني : إمّا أن ينقل عن موضوعه لمواضعة طارئة ، وهو العرفية ، أو لا ينقل ، وهو اللّغوية ، وكل واحدة من هذه الألفاظ إمّا أن تكون موضوعة لمعنى واحد ، وهي المفردة ، أو لمعنيين فصاعدًا ، وهي المشتركة ... فلا شبهة في وجود الحقيقة الوضعية ، وأمّا العرفية فكذلك ، أمّا الامكان فظاهر ، وأمّا الوقوع فبالاستقراء إمّا من عرف عام كالغائط للفضلة وقد كان للمطمئن ، والدابة للفرس وقد كان لما دَبَّ ، وأمّا من عرف خاص فكما للنحاة من الرفع والنصب ، ولأهل الكلام من الجوهر والكون ".( ) فرأى أنّ الحقيقة الوضعيّة لا شبهة في وقوعها، وكذلك العرفيّة، فالاستقراء وكلام العرب حاكم بوقوعها وهذا ما يُعرف عند اللغويين بمظاهر التفسير الدلاليّ سواء أكان تخصيصًا أم تصميمًا أم تفسيرًا ومثّل المحقق لهذه المظاهر بلفظ (غائط) التي تمثل تعبيراً لمجال الدلالة، وهو " انتقال اللفظ من معناه إلى معنى مشابه له أو قريب منه أو بينه مشابهة أكان عن عمد أم عن غير عمد ".( ) ونقل دلالة اللفظة من مجال إلى آخر لا يؤدي إلى تعميم الدلالة واتّساعها بعد أن كانت مخصّصة، ولا يؤدي إلى تخصيصها بعد أن كانت عامّة أو متّسعة بل يكون المعنى الجديد مساوياً للمعنى القديم، ومن الممكن أن تكون الدلالتان متعايشتين معًا كما أنّه يمكن طغيان إحداهما على الأخرى.( ) فلفظ (الغائط ) الذي استشهد به المحقق الحليّ بوصفه مثالاً لهذا التعبير الدلاليّ إشارة إلى قوله تعالى: ? وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى? أَوْ عَلَى? سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ ? : [سورة المائدة: من الآية6] ، كناية عن إظهار لفظ قضاء الحاجة من البطن، قال ابن قتيبة (ت276ه): " والتغوّط من الغائط وهو البطن الواسع من الأرض المطمئن وكان الرجل إذا أراد قضاء حاجته أتى غائطًا من الأرض، فقيل لكلّ من أحدث قد تغوّط".( ) إذن فالغائط كناية عن العَذِرة ؛ لأنّهم كانوا إذا أرادوا ذلك أتوا الغائط وقضوا الحاجة أو لأنّهم كانوا يلقونها في الغيطان، ومنه قيل لمن قضى حاجته: أتى الغائط، وتغوّط: إذا أحدث .( ) أمّا في ما يتّصل بالمثال الثاني الذي ذكره المحقق الحليّ ، ( الدابة) ففيه إشارة إلى مظاهر تخصيص الدلالة وتقييدها وتضييقها وتقليصها، وهو " إطلاق الكلمة ذات الدلالة العامّة على المعنى الخاصّ".( ) بأنْ يكون الاسم قد وضع لمعنى عام , ثمّ يخصص بعرف الاستعمال ببعض أفراده،( ) كلفظ (الدابة) إذ خصّصت بذات الأربع أو بدواب الحمل، أو بإحداها على اختلاف البيئات والأصل هي أنّها لكلّ ما " كان لما دبّ".( ) ولم يغفل المحقّق الحليّ عن الإشارة إلى أثر البيئة العلمية في اختصاصها بألفاظ مقترنة بها، وهي نكتة دلاليّة طريفة تؤكد اختصاص بيئة بألفاظ يتعارفها أهلوها، قال: " وأمّا من عرف خاص فكما للنحاة من الرفع والنصب ولأهل الكلام من الجوهر والكون" ( ) . وهذه إشارة إلى المصطلحات النحوية كأحوال الإعراب (الرفع والنصب والخفض والجزم) والعلامات الإعرابية (الضمة والفتحة والكسرة والسكون) من جهة؛ وإشارة إلى مصطلحات أهل الكلام (المتكلّمين) كالجوهر والكون والكمية والكيفية والمكان والزمان والفعل وغيرها من جهة أخرى( ). أمّا ما يتصل بالحقيقة الشرعية، فيرى المحقق الحليّ أنّها موجودة وثابتة في البيئة الإسلامية ولا يمكن إنكارها، بمعنى أنّها كانت موجودة في اللغة واستعملها العرب، لكنّها اكتسبت من الدين معاني جديدة فتكون بمثابة "اللفظ الذي استفيد من الشارع وضعه للمعنى، سواء كان اللفظ والمعنى مجهولَين عند أهل اللغة أو كانا معلومَين لكنّهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى أو كان أحدها مجهولاً والآخر معلوماً".( ) ، قال: " الحقيقة الشرعية موجودة وصار جماعة من الأشعرية إلى تعقّبها وتعنى بالشرعية ما استبعد وصفها للمعنى بالشرع، لنا: وجودها في ألفاظ الشارع، فإنّ الصوم في اللغة: الإمساك وفي الشرع إمساك خاصّ، والزكاة: الطهارة، وفي الشرع طهارة خاصة، والصلاة: الدعاء وفي الشرع لمعان مختلفة أو متواطئة، تارة تُعَرَّى عن الدعاء كصلاة الأخرس وتارة يكون الدعاء منضمًا كصلاة الصبح ".( ) المتأمل في نص المحقق الحليّ يرى ما يأتي: 1- وجود الحقيقة الشرعية بوصفها لازمة الوضع في الشرع، ولا شكّ في أنّنا " نفهم من بعض الألفاظ المخصوصة كالصلاة والصوم وغيرهما معاني خاصة شرعيّة ونجزم بأنّ هذه المعاني حادثة لم يكن يعرفها أهل اللغة العربيّة قبل الإسلام، وإنّما نُقلت تلك الألفاظ من معانيها اللغوية إلى هذه المعاني الشرعيّة".( ) ويظهر من كلمات المحقق الحليّ أنّ أغلب هذه الألفاظ المتداولة (كالصلاة والصوم والزكاة والحج) ولا سيّما الصلاة التي تؤدى في كل يوم خمس مرات هي حقائق شرعية في معانيها المستحدثة، وإن كانت في أصلها اللّغوي لا تدلّ على ذلك، فقد أضاف إليها الشارع المقدس لوازم ولواحق جعلها مصطلحاً إسلامياً خالصاً يدلّ على فريضة مفهومة في المجتمع الإسلاميّ، بمعنى أنّها: " الألفاظ التي أكسبها الشارع مدلولات جديدة مغايرة لأصل مدلولاتها اللغويّة التي كتب لها الشيوع في الاستعمال العام بين أبناء اللغة بحيث أصبحت هذه المدلولات الشرعية هي المتبادرة إلى الفهم عند عامة الناطقين".( ) ، ومن هنا فإنّ رؤية المحققّ الحليّ تُعدّ محاولة تداوليّة أولى في تفسير الخطاب الشرعيّ القائم على التجوز ، والاتّساع ، وملاطفة المجالات التداولية ، ومغازلة المجالات التداوليّة ، ومغازلة الواقع اللغوي المعيش فيه 2- يلحظ من كلمات المحقق الحليّ أنّ الحقيقة الشرعية هي من مظاهر تخصيص الدلالة، قال: " فإنّ الصوم في اللغة: الإمساك، وفي الشرع إمساك خاص والزكاة: الطهارة، وفي الشرع طهارة خاصة، والصلاة: الدعاء وفي الشرع لمعان مختلفة أو متواطئة، تارة تعرى عن الدعاء كصلاة الأخرس وتارة يكون الدعاء منضمًا كصلاة الصبح".( ) وهذا التخصيص بسبب الوضع التعييني وهو كثرة الاستعمال من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فضلاً عن ذلك قدح القرآن الكريم بها، وهذا ما ذهب إليه الخراساني.( ) وبرى الخوئي تبعاً لشيخه محمد حسين النائيني( ) والبهادليّ.( ) أنّ الدلالة الجديدة التي اكتسبتها هذه الألفاظ في الإسلام لم تبتعد كثيراً عن المعنى اللغويّ ومن هنا:" ندرك مدى التغيير الدلالي الذي أحدثه القرآن الكريم في اللغة العربية وآفاق مدلولات المتجددة، فقد أدى إلى ظهور الكثير من المدلولات الحقيقية والمجازية وانعكس ذلك بوضوح في المنهج التحليلي في فهم النص القرآني، وتعدد مناهج التفسير".( ) وقبل أن نطوي فقرات هذا الأمر (الحقيقة الشرعية والحقيقة العرفية) نقدح بحقيقة مهمة فطن إليها المحقق الحلي، مفادها: " تفريع الأصل عدم النقل ،لأنّ احتمال النقل لو ساوى احتمال البقاء على الأصل لما حصل التفاهم عند التخاطب مع الاطلاق ، لانّ الذهن يعود مترددًا بين المعنيين ، لكنّ التفاهم حاصل مع الإطلاق فكان الاحتمال منفيًا ".( ) ومن أجل تقريب هذه الحقيقة نقول: إنّ الأصل في أصول المخاطبات الكلامية عدم النقل (من الحقيقة إلى المجاز) من جهة, وعدم التقدير والتأويل من جهة أخرى، فالمحقق الحلّيّ يشير إلى أمارة ( أصالة الحقيقة)، يقول محمد رضا المظفر:" وموردها ما إذا شكّ من إرادة المعنى الحقيقي أو المجازيّ من اللفظ بأن لم يعلم وجود القرينة على إرادة المجاز مع احتمال وجودها، فيقال حينئذ الأصل الحقيقة، أي: الأصل أن نحمل الكلام على معناه الحقيقي، فيكون حجة من المتكلم على السامع وحجة فيه للسامع على المتكلم، فلا يصح من السامع الاعتذار في مخالفة الحقيقة، بأن يقول للمتكلم: لعلّك أردت المعنى المجازي، ولا يصح الاعتذار من المتكلم بأن يقول للسامع: إني أردت المعنى المجازي".( ) لا جرم أنّ الظهور يثبت المعنى بالمعنى الحقيقي، ويكون موضوعاً للحجية، وكذلك أصالة الحقيقة مع احتمال وجود القرينة فإذا " شككنا في المراد مع احتمال وجود القرينة بحيث لا يتعين المجاز فننفي المجاز بأصالة الحقيقة، وننفي القرينة بأصالة عدمها، وكلاهما أمارة، ويكون موضوعاً للحجية".( ) ثانياً: المشترك اللفظي هو اللفظ الموضوع لمعنيين وضعاً أولياً لم ينقل أحدهما إلى الآخر.( ) وهو: " اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين أو أكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة، سواء كانت الدلالتان مستفادتين من الوضع الأول أو من كثرة الاستعمال".( ) وذلك مثل لفظ (العين) فإنّ لها معاني عدة في اللغة منها: الباصرة، والجارحة، والجاسوس، والذهب، والشمس، ، ومثل لفظ (النكاح) فإنّ معناه الأصلي الضمّ، فيشمل (العقد) لضمّ اللفظين إلى بعضهما، والجماع لضمّ الجسمين إلى بعضهما فهو مشترك، لكن لمّا كثر إطلاقه في الشرع على العقد أصبح هو المراد عند الإطلاق، ومنه قوله تعالى : ? وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ?: [ سورة البقرة: من الآية 228] إذ إنّ القرء لفظ مشترك يطلق في اللغة على الطهر والحيض،( ) ويتجلى موقف المحقق الحليّ من المشترك اللفظيّ في ضوء الفقرتين الآتيتين: الأولى: إمكان وقوع المشترك اللفظي: تأكد للمحقق الحليّ وجود المشترك اللفظي في اللغة بحسب الاستقراء الذي يحققه، قال: " لا شبهة في وجود الحقيقة المفردة ، واختلف في المشتركة فمن الناس من أوجب وجودها نظرا إلى كثرة المعاني وقلة الألفاظ ، ومنهم من أحالها صونًا للفهم عن الخلل ، والأول باطل ، لأنّا لا نسلم كثرة المعاني عن الألفاظ والثاني باطل لانّ الغرض قد يتعلق بالإبهام كما يتعلق بالإبانة . وأمّا وجودها فاستقراء اللغة يحققه". ( ) ولا يخفى أنّ المحقق قد ردّ على مَنْ قال بضمّ اللفظ الواحد أكثر من معنى؛ لكي تغطي الألفاظ تناهي المعاني، وقد نُسب هذا الرأي إلى الخليل وسيبويه والأصمعي والمبرد وابن فارس وغيرهم.( ) وقد اشترط المحقق في جواز " أن يراد باللفظ الواحد كلا معنييه حقيقة كان فيهما أو مجازاً أو في أحدهما نظراً إلى الإمكان لا إلى اللغة".( ) وفي ذلك إشارة إلى نكتة مفادها أنّ الاستعمال اللغويّ للفظ المفرد يكون فانيًا في دلالة واحدة، فلا يجوز عنده إيراد اللفظ الواحد في معنيين أو أكثر فلا يكاد " يمكن في حال استعمال واحد لحاظه وجهاً لمعنيين وفانياً في الاثنين إلّا أنْ يكون اللاحظ أحول العينين".( ) وقد فطن المحقق الحليّ أيضاً إلى أنّ عدم المنافاة والسياق ( القرائن) امارتان على جواز الاشتراك اللفظي، وهو ملحظ لم يسبق إليه في ما وقفنا عليه عند الأصوليين، قال: " لنا: أنّه ليس بين إرادة اعتداد المرأة بالحيض واعتدادها بالطهر منافاة، ولا بين إرادة الحقيقة وإرادة المجاز معاً منافاة، وإذ لم يكن ثمة منافاة لم يمتنع اجتماع الإرادتين عند المتكلم باللفظ".( ) الثانية : عدم وقوع المشترك اللفظي بالنظر إلى اللغة: يرى المحقق الحليّ عدم إمكان وقوع المشترك اللفظي " وأما بالنظر إلى اللغة ، فتنزيل المشترك على معنييه باطل ؛ لأنه لو نزل على ذلك لكان استعمالًا له في غير ما وضع له ؛ لانّ اللغويّ لم يضعه للمجموع ، بل لهذا وحده ، و لذاك وحده ، فلو نزل عليهما معا لكان ذلك عدولًا عن وضع اللغة ".( ) إنّ حقيقة الوضع عند المحقق الحليّ، وعلاقة اللفظ بالمعنى تجعله يقول بهذا الأمر، ونلحظ نظرته الدقيقة والعميقة إلى عدم وقوع المشترك اللفظي؛ لأنّ الواضع يرمي في الوضع للدلالة على المعنى المراد (المقصود) ، ولا يعقل أنّه يريد معنيين؛ وحجتهم في ذلك: " أنّ الواضعَ لما كان عاقلاً لا يمكن أن يقدم على عمل ليس له المجتمع وبما أنّ جعل اللفظ الواحد لأكثر من معنى مع خفاء القرائن مما يخلّ بتحقيق هذه الغاية، لا يعقل أنْ تعدم عليها الواضع بحال".( ) ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ المحقق الحليّ من القائلين تحفظاً وندرة بوقوع المشترك اللفظي في القرآن الكريم، ولا سيّما في آيات الأحكام التي يترتب على معرفة الدلالة فيها أي تغيير أو إثبات كثير من أحكام الشريعة، فلا يجوز أن يخاطب الله عباده بما لا طريق لهم إلى العلم بمعناه خلافاً للحشوية لنا، يقول : " إنّ ذلك عبث فيكون لله قبيحاً احتجوا بقوله تعالى: چ ں ? ? ? چ وبقوله تعالى: چ ک چ و چ ? چ ، ما أشبهها، والجواب: لا نسلم خلوّ ذلك من الفائدة؛ لأنّ الأول كناية عن القبيح واستعارة فيه، والثاني اسم للسورة".( ) لا جرم أنّ السياق القرآني والاستعمال لها الأثر البالغ في تعدد معاني اللفظ في الخطاب القرآني، وقد أوضح الشريف المرتضى أثرها في تعدد معاني لفظ (اليد) عند بيان قوله تعالى ? إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ? [ سورة الفتح من الآية 10] ، قال: " وهذه استعارة، واليد ههنا تعرف على وجوه، أحدها: أن يكون المعنى عقد البيعة فوق عقدهم، وقيل المراد قوة الله تعالى في نصرة نبيه عليه السلام فوق قوة نصرهم، وقيل اليد ههنا السلطان والقدرة كما يقول القائل: فلان تحت يد فلان، أي تحت يد سلطانه وأمره، فيكون المعنى أنّ سلطان الله تعالى في هذا الأمر فوق سلطانهم وأمره فوق أمرهم، وقيل: أن تقع الصفقة بالأيدي من البائع والمشتري".( ) المطلب الثالث: الوضع والعموم والخصوص: توسع المحقق الحلّيّ في مطلب العموم والخصوص بلحاظ أنّه انتظم في باب كبير ( الباب الثالث) تحدث فيه عن العموم بالتفصيل ثم تحدث عن الخصوص ، وسيراً مع منهجه ووفاقاً لصنيعه سنبدأ ببيان العموم: أولاً: العموم العموم في اللغة مأخوذ من مادة ( عم )، قال ابن فارس:"العين والميم أصل صحيح واحد يدل على الطُّول والكَثْرَة والعٌّلوّ، قال الخليل: العميم الطويل من النبات، يقال: نخلة عميمة والجمع عُمّ، ويقولون استوى النبات على عُممه أي على تمامه".( ) والعموم مصدر على وزن فُعُول وهو الشمول، والعام اسم فاعل منه بمعنى شمل، يقال: مطر عام أي شامل للأمكنة كلِّها وخصب عام إذا شمل البلاد.( ) وفي الاصطلاح، قال الشيخ الطوسي:" اعلم أنّ معنى قولنا في اللفظ (أنَّه عام) يفيد أنّه يستغرق جميع ما يصلح له، وبهذا الذي ذكرناه يتميز من غيره ممّا لا يشركه في هذا الحكم (...) لذلك يُقال: عمّ الله تعالى المكلفين بالخطاب لما كان متوجهاً إلى جميعهم".( ) وقال الآخوند الخراساني:" وهو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه".( ) وقال المظفر:" القصد من العام اللفظ الشامل بمفهومه لجميع ما يصلح انطباق عنوان عليه في ثبوت الحكم له، وقد يقال للحكم أنّه عام أيضاً باعتبار شموله لجميع أفراد الموضوع أو المتعلق أو المكلف".( ) ويرى عبد الكريم زيدان:" أنّ العام لفظ وضع في اللغة وضعاً واحداً لا متعدداً لشمول جميع أفراد مفهومه، أي لجميع الأفراد التي يصدق عليها معناه من غير حصر بعدد معين أي من غير أن يكون في اللفظ دلالة على انحصار بعدد معيّن وإن كان في الخارج والواقع محصوراً كالسموات مثلاً، وكعلماء البلد".( ) ولم يخرج المحقق الحلّيّ عن تعريفيّ الأصوليين السابقين، قال:" العام هو المستغرق لجميع ما يصلح له إذا أفاد في الكلّ فائدة واحدة" ( ). ووافق المحقق الحلّيّ الشيخ الطوسي في وصف ما ليس بلفظ بالعموم مجازاً لعدم الاطراد ؛ لأنّه لا يقال: عمّهم الأكل، كما يقال: عمّهم المطر، فإنّ العموم يقتضي معنى حاصلاً بجملته لكلّ واحد، وذلك غير حاصل في قولهم عمّهم المطر.( ) ومن أجل تقريب هذا المقصود نقول: إنّ استعمال هذه اللفظة (العموم) في المعاني نحو قولهم: عمّهم البلاء والقحط والمطر وغير ذلك، فالأقرب في ذلك أن يكون مجازاً ؛ لأنّه لا يقاس ولا يغني عن سائر المعاني، فقد يترشّح بعض ممّن شملهم وعمّهم البلاء والقحط والمطر. ولم يستبعد المحقق الحلي وجهاً آخر وهو (الاشتراك) بين الحقيقة والمجاز من جهة المعاني والألفاظ، قال: " وقال قوم هو مشترك بين المعاني والألفاظ، وذلك غير بعيد".( ) وهو اختيار الشيخ الطوسي،( ) وزين الدين العاملي أيضاً.( ) ألفاظ العموم وهيآته: اختلف الأصوليون والمتكلمون في العموم، وهل له صيغة تخصّه وهيئات تدلّ عليه أم لا؟ على مذاهب: الأول : أنّ له صنيعًا وهيآت تخصّه، وتدلّ على الاستيعاب والاستغراق والكثرة، وهو قول فقهاء المذاهب الاسلامية والمحققين كـ( أبي حنيفة، والشافعي، وابن حنبل، ، والجبّائي، والمفيد، والطوسي، والعلامة الحلي، والأخوند الخراساني، ومحمد رضا المظفّر وعبد الكريم زيدان وغيرهم).( ) الثاني: التوقف، أي ليس للعموم صيغة تخصه ولا هيأة ، وألفاظ الجمع لا تحمل على ألفاظ العموم إلا بدليل وهو قول أبي الحسن الأشعري والباقلاني.( ) الثالث: الاشتراك بين العام والخاص وهو منقول عن أبي الحسن الأشعري.( ) وذهب السيّد المرتضى إلى هذا الوجه (الاشتراك) قال: " إنّه ليس لفظ موضوع إذا استعمل في غيره كان مجازاً، بل كل ما يدعي من ذلك مشترك بين الخصوص والعموم (...) وأنّ تلك الصيغ نقلت من عرف الشرع إلى العموم".( ) وقد أجمل المحقق الحليّ هذه الأقوال، قال: " في اللغة ألفاظ موضوعة للعموم، وهو اختيار الشيخ رحمه الله، وقال المرتضى: هي مشتركة كلّها بين العموم والخصوص نظراً إلى الوضع لا إلى الشرع، وقال قوم: هي حقيقة في الخصوص مجاز في العموم وتوقّف آخرون".( ) ثمّ ردّ وجه ادّعاء كون الألفاظ والهيآت مشتركة بين العموم والخصوص ؛ لأنّه يزيد في الالتباس وتعمية الخطاب من جهة، وأنّ مقاصد أهل اللغة وغايتهم الإيضاح وإزالة الاشتباه من جهة أخرى، قال: " لو كانت (كلّ) و(جميع) مثلاً للعموم والخصوص على الاشتراك؛ لكان القائل: رأيت الناس كلهم أجمعين مؤكداً للاشتباه وذلك باطل، بيان الملازمة: أنّ لفظة (كلّ) و (أجمعين) عند الخصم مشتركة على سبيل الحقيقة، واللفظ الدال على شيء يتأكد بتكريره فيلزم أنْ يكون الالتباس مؤكداً عند تكريره، وأمّا بطلان اللازم فلأنا نعلم ضرورة من تعاضد أهل اللغة إزالة الاشتباه بتكرير هذه الألفاظ".( ) وقد ردّ المحقق الحلي الوجوه التي ذكرها من قال بالاشتراك، منها: لو كانت ألفاظ العموم للاستغراق؛ لعلم ذلك إما بالبديهية أو بالمشافهة أو بالتواتر أو الآحاد، قال: " والثلاثة الأولى باطلة ؛ لأنّها لو كانت حقًا لاستوينا فيها والآحاد ليست طرقاً إلى العلم".( ) إذ لا مجال للبديهة والمشافهة بمجرده في الوضع، وأمّا النقل (التواتر) أو الآحاد منه فلا تفيد اليقين( ) ومن الجدير بالذكر أنّ للمحقق الحليّ رأيين , أحدهما: تبنى فيه ( نظرية إنكار أخبار الواحد ) وقد أورد هذا الرأي في كتابه المعتبر ، إذ قال : " فما قبله الأصحاب ، أو دلت القرآئن على صحته عُمِل به، وما أعرض الأصحاب عنه ، أو شذّ يجب إطراحه " ( ) وهو بهذا وافق رأي ابن إدريس الحليّ (ت 598ه) الذي اختار رأي الشريف المرتضى ( ت436ه) . والثاني: تبنى فيه ( نظرية قبول أخبار الواحد ) ، وقد أورد هذا الرأي في كتابه المعارج إذ قال " إذا تجرد عن القرائن الدالة عن صدقه ، ولم يوجد ما يدل على خلاف متضمنه ، افتقر العمل به إلى اعتبار شروط " ) وواضح أنّه قبل خبر الواحد الظنيّ المجرد عن القرائن ، إنْ لم يكن معرضًا بحديث آخر إلاّ أنّه قبل خبر الواحد الظنيّ المجرد عن القرائن ، إنْ لم يكنْ معرضًا بحديث آخر ولكنه يقبله بشروط ، وهو بهذا الرأي وافق رأي الشيخ الطوسيّ ، وهو الرأي السائد من عصر المحقق الحليّ حتى يومنا هذا . وقد أشار المحقق الحليّ إلى ألفاظ العموم وهيآته، وهي: 1- (مَنْ) و (ما) إذا كانتا معرفتين بمعنى (الذي) لا تعمّان، وإنْ وقعتا للشرط أو الاستفهام عمّتا.( ) قال الشيخ الطوسي: " فمنها (مَن) في جمع العقلاء إذا كان نكرة في (المجازاة) والاستفهام، ومتى وقعت معرفة لم تكن للعموم وكانت بمعنى (الذي) هي خاصة بلا خلاف".( ) وقال: " ومنها (ما) في ما لا يعقل إذا وقعت الموقع الذي ذكرناه من المجازاة والاستفهام ومتى كانت معرفة لم تكن مستغرقة كما قلنا في (مَن) سواء".( ) 2- (كلّ) و (جميع) تفيدان الاستغراق للتأكيد كانتا أو لغيره.( ) ويرى علي الأيرواني أنّ لفظ ( كلّ) شأنه تأكيد العموم المراد من المدخول , فلولا أنّ المدخول أريد فيه العموم لم يكن للفظ (كلّ) محل إذ اللطيفة في ذاتها ليس منها كلّ ولا بعض.( ) ويرى الشيخ المظفر أنّ ( كلّ ) وما في معناها مثل:( جميع وتمام وأيّ ودائماً ) تدلّ على العموم في أصل الوضع سواء كان عموماً استغراقياً أو مجموعياً وإن العموم معناه الشمول لجميع أفرادها مهما كان لها من الخصوصيات اللاحقة لمدخولها.( ) 3- النكرة (في سياق النفي) وهي من الهيآت التي تدلّ على العموم، قال المحقق: " تعمّ جميعاً وهي في الإثبات بدلاً لوجهين: أحدها أنّ قولك: أكلت شيئاً يناقضه: ما أكلت شيئاً، فلو لم تكن الثانية عامة لم تحصل المناقضة، الثاني: لو لم تكن للعموم لما كان قولنا: لا إله إلا الله توحيداً".( ) لا جرم أنّ المحقق الحليّ قد استعان بالأدلة النقلية والبرهانية في إثبات دلالة العموم على النكرة في سياق النفي، وانتفاء هذه الدلالة في سياق الإثبات في ظلّ توظيف الأمثلة النقلية القائمة على الحجاج والتقريب التداوليّ. فالنكرة الواردة في سياق النهي مثل قوله تعالى : ? وَلَا تُصَلِّ عَلَى? أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا ? [سورة التوبة: من الآية 84] ، وقول النبي (?) " لا ضرر ولا ضرار" ( ) ، تفيد العموم ظاهراً إذا لم يكن فيها حرف (مِنْ) فإنْ دخل عليها حرف (مِنْ) أفادته قطعاً ولم تحتمل التأويل كقولنا: ما رأيت من رجل، وما جاءني من أحد، أمّا النكرة الواردة في سياق الإثبات فليس من سياق العموم كقوله تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ? [سورة البقرة: من الآية 67] .( ) 4- الجمع المعرّف باللام مشتقاً كان أو غير مشتق، قال المحقق الحليّ: " إنْ كان معهوداً انصرف إليه، وإلا فهو للاستغراق ... لنا أن يؤكد بما يقتضي العموم في قولك: قام القوم كلّهم، ورأيت المشركين , فلو لم يكن الأول للاستغراق لما كان الثاني تأكيداً".( ) ولنا وقفة نخالها أليق بالسياق وكشف خطاب المحقق الحلي، فالجمع المعرف بـ(اللام) نحو: المؤمنون والمشركون والمؤمنات والمشركات وغير المشتق: القوم، الروم، النساء، المعهود يعني الألف واللام العهديتين وهي (أل) المعرف التي تقترن بمعهود سبق ذكره، بمعنى أنّ له واقعًا ذهنيًا، نحو: حضر القضاةُ ، بخلاف اللام التي للجنس كـ( الروم والقوم والترك ) فإنّها تفيد الاستغراق( ) ، ويرى المحقق الحليّ أيضاً أنّ العموم يؤكد نحو: قام القوم كلّهم بـ( المؤكد المعنوي) كلّهم، وهو دليل على تجسيد دلالة العموم والشمول في الجمع المقترن بـ(أل). 5- جمع التكسير يفيد الجمع " إذا دخلت اللام فإن أفادت الجمع أيضاً لم يكن ثمة فائدة، فلا بد من إفادة الاستغراق وإلا لتحرّرت عن تحديد فائدة".( ) وهذا الجمع يفيد العموم، قال زين الدين العامليّ وفاقاً للمحقّق الحليّ: " ولا نعرف في ذلك مخالفاً من الأصحاب . ومحققو مخالفينا على هذا أيضاً، وربّما خالف في ذلك بعض مَنْ لا يعتدّ به منهم , وهو شاذّ ضعيف لا التفات إليه".( ) 6- الجمع المضاف قال المحقق الحليّ: " الجمع المضاف كقولك: عبيدي وعبيد زيد للاستغراق".( ) وهذا اللفظ لم يلتفت إليه ممن وقفنا على مصنفاتهم كـ( الشيخ الطوسي وزين الدين العاملي والآخوند الخراساني والشيخ المظفر) سواء أكان جمعاً مضافاً أم مفرداً مضافاً، مشتقاً كان أو غير مشتق.( ) 7- الاسم المفرد إذا دخل عليه ( لام التعريف) أفاد الجنس لا الاستغراق سواء أكان مشتقًا أم غير مشتق ( ). ويبدو في ظل أقوال المحقق الحليّ أنّ دلالة الاسم المفرد الداخلة عليه (أل) المعرِّفة لا تفيد العموم ، وإنّ القول بدلالة العموم منسوب كما عزاه المحقق إلى الشيخ الطوسيّ.( ) والقول بعدم دلالة هذا اللفظ على العموم هو اختيار المحقق كما قلنا والعلّامة والشهيد الثاني زين الدين العاملي.( ) وهو الصحيح لعدم تبادر العموم منه إلى الفهم من جانب، وأنّه لو عمّ لجاز الاستثناء منه قياساً واطّراداً من جانب آخر.( ) فلا تغير هذه المعارف العموم ففي قولنا مثلاً: الدينار خير من الدرهم، الرجل أقوى من المرأة أي إنّ جنس الدينار خير من جنس الدرهم وجنس الرجال بحسب طبيعتهم الجسمانيّة أقوى من جنس النساء، فالتفضيل هنا منصبّ على الجملة فهو تفضيل جملة على جملة لا تفضيل فرد على فرد.( ) 8- الجمع المنكّر لا يدلّ على الاستغراق، ذهب المحقق الحليّ إلى أنّ: " الجمع المنكّر لا يدلّ على الاستغراق وحمله الشيخ (ره) على الاستغراق من جهة الكلمة وهو اختيار الجبّائي".( ) وبيان ذلك أنّ أكثر العلماء على أنّ الجمع المنكّر لا يفيد العموم بل يحمل على أقلّ مراتبه، وممّن قال بإفادته العموم الشيخ الطوسي. إرادة للحكمة؛ بمعنى أنّ المخاطِب الحكيم يريد به العموم، فلو أراد به القلّة لبيّنه، وإذا لا توجد قرينة وجب حمله على الكلّ والشمول والعموم.( ) وقد ردّ المحقق الحليّ على رأي الشيخ الطوسيّ، فقال: " وجوب الأول : لا نسلّم أنّ اللفظ موضوع لها حقيقة، بل موضوع لمطلق الجمع لا للقلّة من حيث هي قلّة ولا للكثرة من حيث هي كذلك والدال على الكلّي غير الدالّ على الجزئيّ سلّمنا أنّه حقيقة فيهما لكن يجب التوقف إلا لقرينة، والقرينة موجودة مع أقلّ الجمع".( ) ومن لواحق الجمع ولوازمه معرفة دخول العدد فيه، قال المحقق الحليّ: "الجمع من الاشتقاق: ضمّ الشيء إلى الشيء فمعناه موجود في الاثنين فصاعداً، وفي العرف يفيد ألفاظاً مخصوصة ولفظ الجمع كقولنا: رجال: يفيد الثلاثة فما زاد، وقيل: يقع على الاثنين أيضاً ... إنّ ألفاظ الجمع توصف بالثلاثة فما زاد، فيقال: رجال ثلاثة ولا يقال: رجال اثنان".( ) قال الشيخ الطوسيّ: " تناول الجموع الثلاثة فصاعداً حقيقة، وإنّ أقلّ الجمع ثلاثة، وذهب قوم إلى أنّ أقلّ الجمع اثنان، والأول مذهب الفقهاء".( ) ويرى الشهيد الثاني العاملي أنّ "أقلّ مراتب صيغ الجمع ثلاثة على الأصحّ وقيل: أقلّها اثنان، (...) أنه يسبق إلى الفهم عند إطلاق الصيغة بلا قرينة الزائد على الاثنين، وذلك دليل على أنّه حقيقة في الزائد دونه، لما هو معلوم من أنّ علامة المجاز تبادر غيره".( ) ويظهر أنّ المحقّق الحليّ قد نظر إلى مقدار الجمع بلحاظه اللغوي فيدخل الجمع في اثنين فصاعداً، ولا ينطوي على الاثنين، فالتقريب التداولي وملاطفة الدلَّالة ومغازلتها لها الأثر في توظيف اللفظ العمومي ومحاولة مسايرة الفتوى الشرعية بلحاظ أدواتها ومبادئها مع الفضاءات الزمانية والمكانية فالحقيقة التأريخية اليوم أنّ البيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تضطلع بدور رئيس في ظهور تيار ما على حساب تيار آخر وأن الفكر الإنساني يصدر عن إطار عام تمثله الظروف الموضوعية القائمة التي سمحت له بالظهور والتبلور وهذا ما يصطلح عليه بـ( المناخ) تارة أو (السياق) أخرى، أو بحسب التعبير المتداول في الفقه الإسلامي وأصوله بـ( تأثير الزمان والمكان)، أو (مناسبات الحكم الموضوع) تارة ثالثة.( ) ثانياً: الخصوص 1- الخصوص تعريفاً قال ابن فارس: " خصّ الخاء والصاد أصل مطّرد منقاس، وهو يدلّ على الفُرجة والثلمة، فالخصاص الفُرج بين الأثافيّ ... ومن الباب خصصت فلاناً بشيء خصوصيّة بفتح الخاء وهو القياس ؛ لأنّه إذا أُفرد واحد فقد أوقع فرجة بينه وبين غيره، والعموم بخلاف ذلك".( ) وقال الراغب الأصفهاني: "التخصيص والاختصاص والخصوصة والتخصص بفرد بعض الشيء بما لا يشاركه فيه الجملة وذلك خلاف العموم والتعمُّم والتعميم ... والخاصة ضدّ العامّة، قال تعالى : ? وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ? [ سورة الأنفال: من الآية 25] أي : بل تعمّكم".( ) وقد أنكر الشيخ علي الكورانيّ تعريف الراغب التخصيص فقال: " فيه ضعف، وقد أخطأ فتصور أنّ التعمّم بمعنى العموم، وهو لبس العمامة ... وعمّمته ألبسته العمامة وهو من العمّة أي التعمّم".( ) ولا يُلتفت إلى قول الكورانيّ؛ لأنّ الخاص والتخصيص والتخصص تكون في قبال العام والتعميم والتعمّم فينظر إلى المعنى المعنويّ فيها لا انحصارها في المعنى الحسي فحسب. وتتجلى دلالة الإفراد والتمييز في تصريفات مادة( خ ص ص) فكلّما أفرد المخصص ظهر وبان وخصّ عن غيره. أما في الاصطلاح، فهو: " ما دلّ على أنّ المراد باللفظ بعض ما يتناوله دون بعض".( ) وقد فرّق الشيخ المظفّر بين ثلاثة مصطلحات يجمعها أصل واحد (خ ص ص)، قال: " القصد من الخاص (الحكم) الذي لا يشمل إلا بعض أفراد موضوعه أو المتعلّق أو المكلّف أو أنّه اللفظ الدال على ذلك، والتخصيص: هو إخراج بعض الأفراد من شمول الحكم العام، بعد أن كان اللفظ في نفسه شاملاً له لولا التخصيص، هو أن يكون اللفظ من أول الأمر بلا تخصيص غير شامل لذلك الفرد غير المشمول للحكم".( ) وقد توسّع المحقّق الحلّيّ في إيراد تصريفات مادة ( خ ص ص) مبيناً تعريفاتها ، وذلك على النحو الآتي: 1- الخصوص أو الخاص من الكلام " يفيد أنّه وضع لشيء واحد".( ) 2- الكلام المخصوص: " هو أنّه قصر على بعض فائدته".( ) 3- التخصيص: " ما دلّ على أنّ المراد باللفظ بعض ما تناوله".( ) و يظهر أنّ التخصيص هو مناط البحث عنده، وهو قصر العام على بعض مسمياته أي أفراده؛ لذا جعله الفيصل في التفريق بينه , وبين النسخ من دون الخاص والمخصوص. 2- الفرق بين النسخ و المخصوص: فرّق المحقق الحلي بين النسخ والتخصيص من وجوه خمسة وفاقاً للشيخ الطوسي في العدّة، قال: " الفرق بين النسخ والتخصيص من وجوه، الأوّل: أنّ التخصيص لا يصحّ إلا في الألفاظ والنسخ قد يكون لما علم بدليل شرعي لفظاً كان أو غيره، الثاني: التخصيص يؤذن بأنّ المخصوص غير مراد من اللفظ عند الخطاب، والنسخ يؤذن أنّ المنسوخ مراد عند الخطاب. الثالث: أنّ النسخ يدخل على (عين) واحدة، والتخصيص بخلاف ذلك. الرابع: التخصيص قد يكون بدلالة الفعل والاستثناء وأخبار الآحاد، والنسخ لا يقع بذلك، الخامس: التخصيص مقارن والنسخ متراخٍ".( ) وقد أضاف الشيخ الطوسي شرطاً سادساً أنّ " التخصيص يقع على بعض والنسخ ليس كذلك، فعُلم بجميع ذلك مفارقة التخصيص النسخ".( ) 3- رأيه في تخصيص العام حقيقة أو مجازاً. ذهب المحقّق الحليّ إلى جواز أن يستعمل "الله تعالى العام في الخصوص ... وقد بيّنا أن المجاز جائز الحصول في خطابه تعالى، وأما الوقوع فظاهر في القرآن والحديث".( ) ويرى أنّ القرينة هي التي تجيزه، قال: " ونحن لا نجيزه إلا مع القرينة".( ) وتخصص العام مجازاً هو الأقوى، قاله الشيخ الطوسي قال: " إنّ العموم إذا خُصّ كان مجازاً وما به يُعلم ذلك وحصر أدلّته".( ) وهو قول العلامة الحليّ في أحد قوليه.( ) وقول الشهيد الثاني (زين الدين العامليّ) ومذهب أبي علي وأبي هاشم الجبائيين ومن تبعهما وأكثر المتكلمين وباقي الفقهاء.( ) ويرى الشيخ المظفر أنّ تخصيص العام هو حقيقة وليس مجازاً، " ؛ لأنّه في التخصيص بالمتصل كقولك مثلاً: (أكرم كلّ عالم إلا الفاسقين) ، لم تستعمل أداة العموم إلاّ في معناها، وهي الشمول لجميع أفراد مدخولها غاية الأمر أنّ مدخولها تارة يدلّ عليه لفظ واحد في صورة التخصيص، فيكون التخصيص معناه أنّ مدخول (كلّ) ليس ما يصدق عليه لفظ عالم مثلاً، بل هو خصوص العالم العادل في المثال".( ) ويرى الآخوند الخراساني أنّ حقيقة التخصيص أقوى من مجازيته، وإنّ الثانية لا محذور فيها بوجود القرينة، قال: " التخصيص قد اشتهر وشاع حتى قيل: (ما من عام إلا وقد خُصّ)، والظاهر يقتضي كونه حقيقة لما هو الغالب تعليلاً للمجاز، مع أنّ تيقن إرادته لا يوجب اختصاص الوضع به مع كون العموم كثيراً ما يراد، واشتهار التخصيص لا يوجب كثرة المجاز ... ولو سلم فلا محذور فيه أصلاً إذا كانت بالقرينة ".( ) والمتأمل في كلام المحقق المذكور آنفاً يجد أنّ تخصيص العام مجازاً لا يستساغ إلا بوجود القرينة، وهي مقدور عليها؛ لأنّ الواضع أراد التخصيص فتظهر في بنية الخطاب ظهوراً عينياً أو ظهوراً معنوياً. 4- مقدار التخصيص: اختلف الأصوليون في منتهى التخصيص إلى كَمْ هو؟ فذهب بعضهم إلى جوازه حتى يبقى واحد وهو اختيار السيد المرتضى .( ) والشيخ الطوسي.( ) وقيل : وذهب الأكثر ومنهم المحقق الحليّ إلى أنّه لا بدّ من بقاء جمع يقرب من مدلول العام، إلا أن يستعمل في حق الواحد على سبيل التعظيم، قال: " يجوز تخصيص ألفاظ العموم حتى يبقى واحد ... وقيل: حتى يبقى ثلاثة، ومنهم من فصّل بين لفظ الجمع وغيره من الألفاظ، وقال أبو الحسين: حتى يبقى كثرة إلا على سبيل التعظيم وهو الأظهر؛ لأنّا نعلم قبح قول القائل: أكلتُ كلّ ما في البستان من الرمان , وفيها ألف وقد أكلتُ واحدة، وكذلك يقبح: أخذت كلّ ما في الصندوق من الذهب – وفيه ألف – وقد أخذ ديناراً ".( ) قصارى ما يمكن أن يقال في فهم المحقق لهذه المسألة: إنه كان واعياً للتصور اللغوي الصحيح القائم على الاستعمال والتداول من جهة، وفطنته إلى عقلانية الخطاب ومنطقيته وموافقته للعقل إنْ صحيحاً وإنْ موافقاً للعربية، فكثر من الجمل صحيحة بنية وأسلوباً؛ إلّا أنّها لا توافق العقل من نحو: حَمْلَتُ الجبلَ، وشَرْبْتُ ماء النهر، وقد التفت سيبويه من قبلُ إلى هذا الأمر فتحدّث عن الكلام القبيح والكلام غير المعقول.( ) ، وقد ختم المحقق الحليّ حديثه عن الخصوص بذكر أدلّة تخصيص العام من دون تقسيمها، غير المشهور (المخصص المنفصل والمتصل) والمخصص المتصل أو غير المتصل، قال: " لا يجوز تخصيص العام بالشرط والغاية والصفة والاستثناء ودلالة الفعل والكتب والإجماع والسنة متواترة كانت أو آحاداً".( ) فالمخصص المنفصل أي المستقل أربعة أنواع عند المحقق هي: دلالة الفعل والكتاب والإجماع والسنة متواترة كانت أو آحاداً، أما المخصص المتصل أي غير المستقل فهي الشرط والغاية والصفة والاستثناء( )، وقد عالج المحقق الحليّ هذين النوعين معالجة لغوية منطلقاً من منطلقات كلامية فلسفية أصولية، آمل أن تكون لدينا فرصة سانحة سامحة لدراسة ما يتصل بهذا المطلب ( العام والخاص)، وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.
خاتمة البحث و نتائجه بعد هذه المسيرة البحثية في رحاب معارج المحقق الحليّ، آن الأوان أن نلملم النتائج التي نحسب أنّها أولى بالتقديم والكشف: الأولى: ظهر أنّ المباحث اللفظية (المبادئ اللغوية) في كتاب المعارج في أصول الفقه للمحقق الحليّ لم تكن مفصلة إلا أنّها جاءت بعبارات دقيقة جامعة مانعة ، وأنَّها تعدّ ممّا بشرت به التداوليّة الحديثة ، باستشراف الاستعمال ، والمجالات التداولية الواقعية . الثانية: يرى المحقق الحليّ أنّ قصد المتكلم وإرادته في إفهام المخاطبين هو الأساس في عملية الخطاب الكلامي خاصة و نظرية الوضع عامة ، وهو ما نادت به التداوليّة اليوم . الثالثة : مبدأ التعهد والالتزام الذي تبنّاه المحقق الحليّ في الوضع لم يكن مجرد مبدإٍ فكري يفسر الوضع فحسب، بل كان يدخل في وضع الحلول للكثير من المفاهيم الأصولية والفقهية لديه. الرابعة : عنايته بالتحديد الدقيق والتقسيم العقلي لكثير من المفاهيم التي عالجها فضلًا عن التعريفات الجامعة المانعة كما هو الحال في تعريفه (الخطاب والكلام والمهمل والمستعمل والحقيقة والمجاز والعموم والخصوص) وغيرها. الخامسة : يرى المحقّق الحليّ أنّ أغلب الشروط المائزة بين الحقيقة والمجاز كالاطّراد، واستعمال أهل اللغة لها، وتعليق اللفظة بما يستحيل تعلقها به، وصحة التصرف كالتثنية والجمع وغيرها فيها نظر. السادسة : ظهر أنّ المحقق الحليّ من القائلين بوجود الحقيقة الشرعية كالصلاة والصوم والزكاة وغيرها، وأنّ الإسلام (الشارع المقدس) قد أضاف لها دلالات جديدة جعلها شرعية إسلامية ، وهذا الفهم يعدّ محاولة تداوليّة في تفسير الخطاب الشرعيّ القائم على التجوز والاتساع ، وملاطفة المجالات التداوليّة ومغازلتها . السابعة : قدح المحقّق الحليّ أنّ الأصل في أكثر المباحث اللفظيّة عدم النقل من الحقيقة إلى المجاز فضلاً عن قوله بأصالة الحقيقة ولا يتم النقل إلّا بوجود القرائن. الثامنة : يرى المحقّق الحليّ أنّ عدم المنافاة (التناقض) والسياق يجيز وقوع المشترك اللفظي، كالقرء والطهر والحيض، وكذلك بين إرادة الحقيقة وإرادة المجازمعًا. التاسعة : إمكان وقوع المشترك اللفظيّ في القرآن الكريم تحفظاً وندرة ولا سيّما آيات غير الأحكام. العاشرة : ظهر أنّ المحقّق الحليّ من القائلين بأصالة العموم ولا يركن إلى الخصوص إلا بالقرائن المحيطة بالنص والخطاب ، ولا يخفى أنّ الكشف عن هذه القرائن من أجل الوصول إلى أعلى مراقي المقاربات التداوليّة ، فضلًا عن ذلك تكشيف قوة التماسك الدلاليّ في النص المُعاين . الحادي عشرة : يرى المحقق الحليّ أنّ ادّعاء كون الألفاظ والهيآت مشتركة بين العموم والخصوص غير صحيح ؛ لأنّ الاشتراك يزيد في التباس التصورات من جهة وتعمية الخطابات وغموضها من جهة أخرى، وأنّ مقاصد أهل اللغة وغاية الواصفين الإيضاح ودرء الاشتباه. الثانية عشرة: ظهر أنّ المحقّق الحليّ من الذين لا يأخذون بأخبار الآحاد وفاقاً لابن إدريس الحليّ؛ لأنّها في نظره لا تخرج عن أمرين، هما: أنّها من الروايات الضعيفة، وقد أسقط العلماء حجية الأخبار الضعيفة، إذ إنّها من المراسيل. الثالثة عشرة : تبيّن لنا أنّ المحقق الحليّ كان واعياً للتصور اللغوي الصحيح القائم على الاستعمال والتداول من جهة، ومجاراة العقل والمنطق من جهة أخرى، ومن هنا فإنّه قبّح جملاً يرى أنّها لا توافق العقل والمنطق على الرغم من توافر عناصر إسنادها المحكمة ، وهذا ما لمحتُه التداوليّة المعاصرة ، التي لا تركز على العلاقة المنطقيّة بين الدال والمدلول ( العلاقة البنيوية ) فحسب ، بل العناية بالبعد الوظيفيّ للغة ، الأمر الذي دعا الى تفتيح الدلالات ، وتشقيقها في الدرس التداوليّ . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمد و آله الطاهرين
الهوامش :
تحميل الملف المرفق Download Attached File
|
|