عنوان البحث(Papers / Research Title)
الدلالة النحوية الاحتمالية في جملة الصلة في القرآن الكريم
الناشر \ المحرر \ الكاتب (Author / Editor / Publisher)
عماد فاضل عبد محسن البوشندي
Citation Information
عماد,فاضل,عبد,محسن,البوشندي ,الدلالة النحوية الاحتمالية في جملة الصلة في القرآن الكريم , Time 15/07/2019 11:17:59 : كلية العلوم الاسلامية
وصف الابستركت (Abstract)
الاحتمال في جملة الصلة
الوصف الكامل (Full Abstract)
الدلالة النحوية الاحتمالية في جملة الصلة في القرآن الكريم م. د. عماد فاضل عبد جامعة بابل / كلية العلوم الإسلامية قسم علوم القرآن المقدِّمة الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين، وبعد، فإنَّ لغتنا العربية تحفل بكثير من الظواهر التي تكشف عمّا تشتمل عليه هذه اللغة من ثراء سواء في الألفاظ المفردة ومعانيها أم في التراكيب ودلالاتها، وإنَّ من أبرز هذه الظواهر ظاهرة تعدد الاحتمالات في الدلالة للتركيب الواحد. ولمّا كان الخطاب القرآني حمّالًا ذا وجوه وآياته تتردد ((بين مذاهب واحتمالات تدهش العقول وتحير الألباب والكلام بعد متكئ على أريكة حسنه متجمل في أجمل جماله متحل بحليّ بلاغته وفصاحته))( ) كان البحث فيما تحتمله الدلالة النحوية للنص القرآني الكريم من الموضوعات الجديرة بالاهتمام؛ لما يفتحه ذلك البحث من آفاق في ذهن المتلقي للتفكير في دلالات جديدة يمكن أن يحتملها النص المدروس. وهذا البحث هو محاولة لاستقصاء الدلالة النحوية التي يمكن أن تحتملها جملة الصلة في النص القرآني، ومن ثَمَّ محاولة ترجيح أحد الاحتمالات. واشتمل البحث على: تمهيد، وثلاثة مباحث، وخلاصة. وقد استقى مادته من كتب التفسير وأُمات المصادر القديمة والمراجع الحديثة التمهيد: مفاهيم أساسية أولًا: في الدلالة النحوية الاحتمالية الدلالة في اللغة مأخوذة من مادة (دلَّ)، وهي تشتمل على أكثر من معنى، فـ ((الدَّالُ وَاللَّامُ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا إِبَانَةُ الشَّيءِ بِأَمَارَةٍ تَتَعَلَّمُهَا، وَالآخَرُ اضْطِرَابٌ فِي الشَّيءِ. فَالأَوَّلُ قَوْلُهُمْ: دَلَلْتُ فُلَانًا عَلَى الطَّرِيقِ. وَالدَّلِيلُ: الأَمَارَةُ فِي الشَّيءِ. وَهُوَ بَيِّنُ الدَّلَالَةِ وَالدِّلَالَةِ))( ). وأمّا في الاصطلاح فهـي ((كـون الشـيء بـحـالـة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، والشيء الأول هو الدال والثاني هو المدلول))( ). ويمكن القول إنَّ الجامع لمعنى الدلالة اللغوي بالاصطلاحي هو الإشارة، لأنَّ الدلالة في اللغة هي (الأمارة) أي الإشارة، وفي الاصطلاح تعني الدلالة إشارة أمرٍ معلومٍ إلى آخر معلوم، وربما كانت الإشارة إلى أكثر من أمرٍ معلوم. وقد عرّفوا الدلالة النحوية بأنّها ((الدلالة التي تحصل من خلال العلاقات النحوية بين الكلمات التي تتخذ كل منها موقعًا في الجملة وحسب قوانين اللغة))( ) والدال والمدلول من المصطلحات المتداولة التي شاعت في بيئة الدرس اللغوي حديثًا ولا سيما عند المشتغلين بعلم الدلالة الذي يُعْنى بالمعنى فهو ((ذلك الفرع من علم اللغة الذي يتناول نظرية المعنى، أو ذلك الفرع الذي يدرس الشروط الواجب توافرها في الرمز حتى يكون قادرًا على حمل المعنى))( )، ومعنى هذا أنَّ الأساس الذي يقوم عليه علم الدلالة هو (المعنى). وأمّا الاحتمال في اللغة فهو مصدر للفعل الخماسي المزيد (احْتَمَلَ)، وجذره اللغوي (حَمَلَ)، وقد ذكر ابن فارس (ت395ه) معنى واحدًا لاستعمالاته في اللغة فقال: ((الحاء والميم واللام أصلٌ واحدٌ يدل على إقلال الشيء، يقال حَمَلْتُ الشيءَ أحْمِلُهُ حَمْلًا))( ). ويقال: ((حَمَلْتُ الشيءَ على ظَهْرِي أحْمِلُهُ حَمْلًا ومنه قوله تعالى: ?مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا?))( )، فالنهوض بالشيء وقبول الأمر الصعب أمرٌ واحدٌ أو كما ذكر ابن فارس أصلٌ واحدٌ، إلّا أنَّه مستلزم للمشقة وإلى هذا أشار الخليل (ت175ه) فقال: ((تحاملتُ في الشيء إذا تكلّفتُه على مشَقّةٍ))( )، ومنه أيضًا قولهم: ((احْتَمَلَ الرجل إذا غَضِبَ ويكون بمعنى حَلُمَ، قال الأصمعي في الغضب غَضِبَ فلان حتى احْتَمَلَ))( ). وقال ابن سيده (ت458ه): ((حَمَلَ الشَّيْءَ يَحْمِلُه حَمْلاً وحُمْلانا، فَهُوَ مَحْمولٌ وحَمِيلٌ، واحتَملَه. وَقَول النَّابِغَة: فحمَلْتُ بَرَّةَ واحتَملْتَ فَجارِ عبّر عن البَرَّة بالحمل، وعن الفجرة بالاحْتِمَالِ، حَمْلُ البَرَّة بالإضافة إلى احْتِمَال الفجرة أَمر يسير ومستصغر. ومثله قول الله عزّ اسمه: ?لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ?))( ). وفي النص إشارة إلى دلالة المبالغة في الاحتمال. والذي يفهم من هذه النصوص أنَّ الجامع لهذه الاستعمالات في اللغة أنَّ الاحتمال هو الجهد والمشقة. وجاء تعريف الاحتمال في الاصطلاح بإنَّه ((ما لا يكون تصور طرفيه كافيًا بل يتردد الذهن في النسبة بينهما ويراد به الإمكان الذهني))( ). بمعنى عدم القطع بصحة طرفٍ دون آخر. واستشهد ابن منظور (ت711ه) على مثل هذا بقول أمير المؤمنين علي ? لابن عباس، فقال: ((وفي حديث علي: لا تُنَاظِرْهُمْ بِالقُرْآنِ فإنَّ القُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوهٍ، أي يُحْمَلُ عليه كُلُّ تأويل فَيَحْتَمِلُهُ، وذو وُجُوه أي ذُو مَعانٍ مُخْتَلِفَةٍ))( ). ومعنى هذا أنَّ دلالة (احتمل) تفيد معنى الاستيعاب وأنَّ كلام الله يستوعب ويتضمن وجوهًا عدّة في التفسير( ). ويمكن أن تكون المناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي سعة آفاق البحث عند الناظر المتأمل في تركيب النص اللغوي؛ نتيجة تعدد وجوه الدلالة لذلك النص بسبب احتمال تعدد الموقع الذي يمكن أن تشغله الكلمة داخل التركيب. ثانيًا: في صلة الموصول لمّا كانت الأسماء الموصلة أسماء مبهمة فهي محتاجة دائمًا إلى ما يبيّن معناها ويزيل غموضها ويظهر المقصود منها، وإنَّما يكون ذلك بجملة تذكر بعدها تسمى (جملة الصلة). قال ابن جني (ت392ه): ((واعلم أنَّ هذه الأسماء لا تتم معانيها إلّا بصلات توضحها وتخصصها))( ). وقد عرض النحويون منذ بدايات الدرس النحوي لدراسة الصلة في ضوء دراسة الموصولات نفسها، أي إنَّ دراستهم لها لم تكن منفصلة عن الموصولات وإنَّما تابعة لها( )، إذ عدّوا الموصول وصلته كاسم واحد، قال المبرد (ت285ه): ((فإنَّما الصلة والموصول كاسـم واحد لا يـتـقـدم بـعضـه بـعـضًـا))( )، وقـال عبـد القـاهر الجـرجـانـي (ت471ه): ((فإذا استوفت الموصولات صلاتها ... كانت بمنزلة اسم مفرد نحو زيد وعمرو وعبد الله))( ). ولم يكن مصطلح (الصلة) قد استقر في بدايات الدرس النحوي، إذ تردد بين تسميتين ذكرهما سيبويه (ت180ه)، إحداهما: (الحشو) فقال: ((باب ما يكون الاسم فيه بمنزلة الذي في المعرفة إذا بُنِيَ على ما قبله وبمنزلته في الاحتياج إلى الحشو))( )، والأخرى: (الصلة) فقال: ((لا يكون (ما) و(مَن) إذا كان الذي بعدهما حشوًا وهو الصلة))( ). ولعلّ استعمال سيبويه للفظ الحشو كان لبيان أنَّ هذه الجملة ليس لها محل، إنَّما هي زيادة يتمّ الاسم بها ويفهم معناه( ). ثمَّ ما لبث الدرس أن استقر عند مصطلح الصلة وأصبح وحده دالًا على هذه الجملة، على أنَّ أصحاب الدراسات اللغوية الحديثة يسمونها (المقطع الجملي)( ). ولجملة الصلة شروط ذكر النحاة أنَّها ما لم تتوافر في جملة ما لا يمكن الوصل بها، فقالوا إنَّها يجب أن تكون جملة خبرية قابلة للصدق أو الكذب نحو قوله تعالى: ?وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ? [الزمر/33]، خلافًا للكسائي (ت189ه) الذي ذهب إلى جواز الوصل بالجملة الإنشائية، نحو: جاءني الذي اضْرِبْهُ، والمازني (ت248ه) الذي أجاز الوصل بالدعاء، نحو: جاء الذي رحمه الله، ومن الشروط أيضًا أن تكون جملة الصلة غير مفتقرة إلى كلام قبلها، وخالية من التعجب، خلافًا لابن خروف (ت609ه) الذي أجاز الوصل بجملة التعجب، إذ عدّها خبرية، وأن يكون لدى السامع علم مسبق بها( ). وتأتي الصلة شبه جملة، ظرفًا أو جارًا ومجرورًا، بشرط أن يكونا تامّين، أي يتم المعنى وتحصل الفائدة بالوصل بهما، وإلّا فلا يجوز الوصل، نحو: جاءني الذي في الدار، والذي عندك، على أن تكون شبه الجملة متعلقة بـ (استقر) المحذوف وجوبًا( ). ومن شروط هذه الجملة كذلك أن تكون مشتملة على عائد يعود على الموصول ليحصل به الربط بين الموصول وصلته، سواء كان مذكورًا أم مقدرًا، على أن يطابق الموصول المختص لفظًا ومعنى، أي يدل في لفظه ومعناه على ما دلّ عليه الاسم الموصول من تذكير أو تأنيث ومن إفراد أو تثنية أو جمع، نحو قوله تعالى: ?وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا? [الزمر من الآية/42]، والمشترك لفظًا نحو قوله تعالى: ?وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ? [محمد من الآية/16]، أو معنى، نحو قوله تعالى: ?وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ? [يونس من الآية/42]( ). ومن الشروط الأخر لجملة الصلة أن لا تتقدم على الموصول، قال ابن السرّاج (ت316ه): ((ولا يصلح أن تُقَدِّمَ شيئًا من الصلة ظرفًا كان أو غيره على الذي ألبتة))( )، فهي تركّب مع الموصول كلّا متكاملًا تؤدي وظيفة الوصف لاسم معرفة، وتوضّح الموصول وتبيّنه( ). وكذلك لا يجوز أن يفصل بين الموصول وصلته بفاصل أجنبي. ثمَّ إنَّ هذه الدلالة الاحتمالية في جملة الصلة قد تكون ناتجة من العطف على الصلة، أو البدل منها، أو من العائد عليها. المبحث الأول: الدلالة النحوية الاحتمالية في العطف على الصلة تعددت آراء المعربين والمفسرين في تحديد دلالة صلة الاسم الموصول في ضوء ما يُحْتَمَلُ أنّه معطوف على الصلة، ومن ثمَّ يكون داخلًا في حكمها، من ذلك قوله تعالى: ?أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ? [البقرة/86] إذ تقع صلة الاسم الموصول على أحد الوجهين الآتيين: الأول: أن يكون قوله تعالى: (فلا يخفف) معطوفًا على جملة الصلة (اشتروا) داخلًا في حيزها على الرغم من اختلاف الفعلين زمانًا، ذكره الرازي (ت606ه)( )، وأبو حيان (ت745ه)( )، وقال السمين الحلبي (ت756ه): ((ولا يضر تخالف الفعلين في الزمان فإنَّ الصلات من قبيل الجمل، وعطف الجمل لا يشترط فيه اتحاد الزمان، يجوز أن تقول جاء الذي قتل زيدًا أمس وسيقتل عمرًا غدًا، وإنّما الذي يشترط فيه ذلك حيث كانت الأفعال منزّلة منزلة المفردات))( )، وتقدير الكلام على هذا: أولئك الذين اشتروا وأولئك لا يخفف، لأنَّهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض( ). الثاني: أن يقف بالصلة عند قوله عزّ وجلّ: (اشتروا)، فيكون قوله سبحانه: (فلا يخفف) إمّا خبر ثان على أساس أنَّ (أولئك) مبتدأ، خبره الموصول بصلته، وهو ما جوّزه أبو حيان( )، والمعنى: أنَّ الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض هم الذين اشتروا الحياة الدنيا، الذين لا يخفف عنهم العذاب. وإمّا أن يكون خبرًا للموصول على أن يكون (أولئك) مبتدأ و(الذين) مبتدأ ثان، و(فلا يخفف) خبر للمبتدأ الثاني، والمبتدأ الثاني وخبره، خبر للمبتدأ الأول، ذهب إلى هذا أبو حيان( )، وتابعه السمين الحلبي( )، وغيره( )، فيكون معنى الآية على هذا: أنَّ الذين اشتروا الحياة الدنيا لا يخفف عنهم العذاب. والذي يبدو أنَّ الاحتمال الثاني على كلا الوجهين هو الأرجح، فهو من جهة خال من التقديرات والتأويلات التي لا طائل فيها، ومن جهة أخرى لا وجود فيه للتخالف في الزمن كما في الأول، زيادة على ذلك أنَّ هذا الوجه يكون أكثر تطابقًا مع سياق الآية العام، فبعد أن أخبر سبحانه في الآية السابقة عن نقض بني إسرائيل عهدهم وهو قوله: ?تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ? [البقرة من الآية/85]، بيّن في أوّل هذه الآية صفتهم، ثمّ أخبر عن مصيرهم فقال: (فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون). وفي قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا? [النساء/1] فإنَّ دلالة صلة (الذي) تقع على أحد احتمالين تبعًا للموضع الإعرابي المحتمل لقوله تعالى: (وخلق)، وعلى النحو الآتي: الأول: أن يكون قوله سبحانه: (وخلق) معطوفًا على صلة الموصول (خلقكم)، ومن ثمَّ هو داخل في حيزها، ذكره الزمخشري (ت538ه)( )، وأبو حيان( )، وغيرهما( )، إلّا أن الزمخشري انفرد فخصّ هذا الوجه بكون الخطاب في قوله تعالى: (يا أيّها الناس) موجه للذين بُعِث إليهم رسول الله (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ)، أي لمعاصريه على أساس أنَّهم من جملة الجنس المفرّع منه، وخلق منها أمكم حواء( ). ولا دليل على ذلك، بل الدليل خلافه، فقد ذكر الراغب الأصفهاني (ت502هـ)( )، والطبرسي (ت548ه) أنَّ الفرق بين قوله: (يا أيّها الناس) وقوله: (يا أيّها الذين آمنوا) هو في الأول خطاب عام موجه للناس كافة لحثهم على اتقائه، أمّا في الثاني فالخطاب خاص بالمؤمنين( ). والمفهوم من ظاهر الآية أنَّه خطاب عام يشمل كل أفراد البشر وليس للمؤمنين فضلًا عن المعاصرين للرسول (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ)، و((الخطابات الواقعية لا تختص بطائفة خاصة وإذا ورد خطاب يتعلق بالمؤمنين خاصة فلأجل أنَّهم أشرف الأفراد، كذلك إنَّ دين الإسلام دين الإنسانية وإنَّ الرسول (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ) داعٍ الهي مرسل إلى نوع الإنسانية بلا استثناء))( ). قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا? [الأعراف من الآية/158]. وعلى القول بهذا الوجه يكون تقدير الكلام: اتقوا ربكم الذي خلقكم واتقوا الذي خلق منها، فأشرك الثاني في حكم الأول. الثاني: أن يكون قوله عزّ وجلّ: (وخلق) معطوفًا على محذوف، والتقدير: من نفس واحدة أو ابتدأها، وخلق منها زوجها. وإنَّما حذف لدلالة المعنى عليه، وهو قول الزمخشري( )، وقال السمين الحلبي: ((وإَّنما حمل الزمخشري ... على ذلك مراعاة الترتيب الوجودي؛ لأنَّ خلق حواء، وهي المعبّر عنها بالزوج قبل خلقنا، ولا حاجة إلى ذلك؛ لأنَّ الواو لا تقتضي ترتيبًا على الصحيح))( ). وقال أبو حيان: ((ويجوز أن يكون قوله وخلق منها زوجها معطوفًا على اسم الفاعل الذي هو واحدة، التقدير: من نفس وَحَدَتْ أي: انفردت. وخلق منها زوجها، فيكون نظير صافات ويقبضن، وتقول العرب: وَحَدَ يَحِدُ وحْداً ووَحْدَةً بمعنى انْفَرَدَ))( ). وعلى كلا الوجهين المذكورين آنفًا في الاحتمال الثاني تكون الصلة قد تمت عند قوله تعالى: (اتقوا ربكم الذي خلقكم). والذي يظهر أنَّ الوجه الأول هو الأرجح، إذ ليس فيه ما في الآخر من تكلف تقديرات وتأويلات لا طائل فيها، فضلًا عن بعد الآية عن معناها المراد والذي هو أنَّ الخلق كلهم من نفس واحدة، ((وعلى هذا الأساس لا مبرر للتمييز العنصري، واللغوي، والمحلي، والعشائري وما شابه ذلك))( ). في قوله تعالى: ?وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ? [الأنعام/60-61] تتغير دلالة الآية المباركة تبعًا لاتساع أو ضيق دلالة صلة الموصول فيها، وتنفتح وجوه الدلالة الاحتمالية للصلة فيما يأتي: اولًا: أن يكون قوله تعالى: (ويرسل عليكم) معطوفًا على صلة الموصول، أي على قوله عزّ وجلّ: (يتوفاكم)، فيكون داخلًا في حيزها محكومًا بحكمها، ذكر ذلك أبو البقاء (ت616ه)( )، وغيره( )، والتقدير: الذي يتوفاكم ويرسل عليكم. وعلى هذا يكون غرض الآية بيان علمه سبحانه وقدرته وسعة حكمه وأمره، وذكر المزيد من صفاته لأجل المدح والتعظيم، و((إلقاء ظل الرقابة المباشرة على كل نفس، ظل الشعور بأنَّ النفس غير منفردة لحظة واحدة، وغير متروكة لذاتها لحظة واحدة، فهناك حفيظ عليها رقيب يحصي كل حركة ... وهذا التصور كفيل بأن ينتفض له الكيان البشري))( ). ثانيًا: قال أبو حيان: ((وظاهر ويرسل أن يكون معطوفًا على وهو القاهر، عطف جملة فعلية على جملة اسمية وهي من آثار القهر))( )، والتقدير على هذا: هو القاهر ويرسل. ثالثًا: أنَّ القول معطوف على قوله تعالى: (القاهر) على أساس كونه اسم فاعل وقد وقع صلة لـ (أل)، وهو في معنى يفعل إذ هو في تأويله، والتقدير: هو الذي يقهر عباده ويرسل عليكم( ). رابعًا: أن تقع جملة: (ويرسل عليكم) خبرًا لمبتدأ محذوف، وتقدير الكلام: وهو يرسل عليكم، وتكون هذه الجملة أعني: (وهو يرسل عليكم) في محل نصب على الحال، إمّا من الضمير المستكن في القاهر، وهو الأظهر( )، وإمّا من الضمير المستـكن فــي الظرف (عليـكم) وهذا أضعف الأعاريـب( )، ومنـع شهاب الديــن المصـري (ت1069ه) هذا الوجه قائلًا: ((ولا يصح جعله حالًا لأنَّ الواو الحالية لا تدخل على المضارع))( )، والصحيح أنَّها لا تدخل على المضارع المثبت الخالي من قد، وتدخل على المنفي( ). خامسًا: أن يكون قوله: (ويرسل عليكم) جملة مستأنفة. وهو ما احتمله أبو البقاء( )، وذكره غيره( ). ويبدو أنَّ الاحتمال الأول هو الأظهر، إذ فيه تحقق لغرض الآية المباركة- والله العالم- وهو بيان لعظيم قدرته سبحانه وتعالى، بعد أن ذكر فيما سبق من آيات سعة علمه، ومن دون تكلّف تقدير أو تأويل لا حاجة له، بخلاف الاحتمالات الأخرى. وأنَّ الجمع بين العبارتين بالعطف يوحي بأنَّ هذه القدرة مستمرة على مدى الليل والنهار، وإن اتخذت أشكالا متعددة، من تَوفٍّ للنفوس بالليل، وإحاطة وعلم بما جرحت في النهار. في قوله تعالى: ?وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ? [يونس/45] ثمة أكثر من احتمال لدلالة صلة الموصول، في ضوء احتمال قوله تعالى: (وما كانوا مهتدين) لأكثر من موضع إعرابي، مما يعني تعدد الدلالة المحتملة للآية المباركة وعلى النحو الآتي: الأول: أن يكون قوله عزّ وجلّ: (وما كانوا مهتدين) معطوفًا على الصلة (كذّبوا) داخلًا في حيزها، على تقدير: الذين كذّبوا بلقاء الله ولم يكونوا مهتدين، قال أبو حيان: ((ويحتمل أن يكون معطوفًا على صلة الذين، أي: كذّبوا بلقاء الله وانتفت هدايتهم في الدنيا))( ). وعلى هذا جمعت الآية لأولئك الخاسرين صفتي التكذيب بلقاء الله وعدم الهداية في الدنيا. الثاني: يجوز أن يكون قوله تعالى: (وما كانوا مهتدين) معطوفًا على جملة (قد خسر) وهو ما استظهره أبو حيان فقال: ((وما كانوا مهتدين: الظاهر أنَّه معطوف على قوله: قد خسر، فيكون من كلام المحشورين إذا قلنا إنَّ قوله قد خسر من كلامهم أخبروا عن أنفسهم بخسرانهم في الآخرة وبانتفاء هدايتهم في الدنيا))( )، وقد ذهب الزجّاج (ت311ه) إلى جواز أن يكون الكلام راجعًا إلى المحشورين إذ قال: ((ويجوز أن يكون- والله أعلم- بتعارفهم بينهم يقولون قد خسر الذين كذّبوا بلقاء الله))( )، فيكون الغرض من هذا هو توبيخهم لأنفسهم( ). الثالث: قال أبو حيان: ((ويحتمل أن تكون الجملة للتوكيد بجملة الصلة؛ لأنَّ من كذّب بلقاء الله هو غير مهتد))( )، وربما يُفهم من ظاهر كلامه أنَّه جعل التوكيد معنى قائمًا برأسه غير مرتبط بالعطف على الصلة، فهو على هذا وجه ثالث للاحتمال. أو يكون مراده أنَّ معنى التوكيد قد حصل من العطف، وبهذا صرّح السمين الحلبي فقال: ((أن تكون معطوفة على صلة الذين وهي كالتوكيد للجملة التي وقعت صلة؛ لأنَّ من كذّب بلقاء الله غير مهتد))( )، فيكون من باب تقوية المعنى بمرادفه( ). الرابع: أن يكون القول استئنافًا وهو((شهادة من الله على خسرانهم. والمعنى أنَّهم وضعوا في تجارتهم وبيعهم الإيمان بالكفر وما كانوا مهتدين عارفين بها وهو استئناف فيه معنى التعجب، كأنَّه قيل ما أخسرهم!))( ). والذي يظهر أنَّ الاحتمال الأول هو الأرجح من بين بقية الاحتمالات، لأنَّ العطف فيه مناسب للمعنى، وأنَّ المتعارف عليه أن يكون العطف للأقرب، أي: عطف (وما كانوا مهتدين) على (كذّبوا بلقاء الله). وعلى هذا يكون الاحتمال الثاني مرجوح لبعد العطف على (قد خسر) مع إمكان العطف على الأقرب. وأمّا الاحتمال الثالث فمرجوح لأنَّ التوكيد من توابع اللفظ والمعنى، والحاجة إليه ثانوية قياسًا بالمعنى الأصلي، أي كذّبوا (بلقاء الله)، في حين أنَّ الآية الكريمة في مقام بيان صفات مَن خسر، والتعدد ظاهر في المعنى، وإلّا لاشتركت أغلب الصفات في معناها العام ولما تعدّدت عند ذكرها في النص القرآني. أمّا الاحتمال الرابع فهو وإن كان مقبولًا من حيث الدلالة، يحجبه أنَّ القول بالعطف أولى منه وأحق. قوله تعالى: ?أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ? [الزخرف/52] لدلالة صلة الموصول في الآية المباركة أكثر من احتمال ذُكرت في كتب التفسير والإعراب وهي: الأول: يحتمل أن يكون قوله تعالى: (ولا يكاد يبين) معطوفًا على الصلة، داخلًا في حيزها، ذهب إلى هذا السمين الحلبي( )، وغيره( )، ويُقدّر الكلام على هذا القول: أم أنا خير من هذا الذي هو مهين والذي لا يكاد يبين، فعطفت جملة منفية على جملة مثبتة، وذكر لموسى (عَلَيْهِ السَّلَامُ) نقطتي ضعف ـــــ كما يظنّهما ـــــ الذلّ وعدم الإبانة. الثاني: أن يكون قوله عزّ وجلّ: (ولا يكاد يبين) كلامًا مستأنفًا مقطوعًا عمّا قبله أجازه السمين الحلبي( )، وتابعه شهاب الدين المصري( )، والجملة على هذا ليس لها محل من الإعراب أيضًا، ويكون غرض الآية في ضوء هذا الاحتمال مبالغة فرعون في الذم والتحقير بتوصيف موسى (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بهذه الصفة باعتبار ما كان عليه قبل الرسالة، والذي رُفِعَ عنه لقوله: ?قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى? [طه/36] بعد قوله: ?وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي? [طه/27]( ). الثالث: أجازوا أن يكون قوله تعالى: (ولا يكاد يبين) في محل نصب حالًا( )، والتقدير: أم أنا خير من هذا الذي هو مهين حال كونه لا يكاد يبين، أي: اتصافه بـ (المهين) ليس دائمًا، إنَّما حال كونه لا يكاد يبين. وعلى هذين الوجهين تكون صلة الموصول قوله تعالى: (هو مهين)، بخلاف الوجه الأول. والذي يبدو أنَّ الاحتمال الأول هو الأرجح، لأنَّ قوله تعالى: (هو مهين) جملة اسمية وهي دالة على الثبات ـــــ كما هو معروف ـــــ فهي أقوى من الجملة الفعلية من هذه الجهة، وعليه الأولى أن تكون هذه الجملة هي الأولى في معرض الذم أكثر من غيرها، ومن جهة أخرى أنَّ الاستئناف معنى محتمل يسقط مع إمكان حمل المعنى على سياقه الأصلي وهو العطف، وزيادة على ما تقدّم إنَّ معنى المهين: الخادم والذليل والحقير ومن الطبيعي أن يبدأ فرعون بالصفة الأقوى ثمّ يبيّن الصفة الأخرى وهذا أنسب مع حاله من الاغترار والتباهي بما له من ملك وسلطان، فهو يسأل في فخر وخيلاء ?أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ? [الزخرف من الآية/51]، فمن الطبيعي أن ينتفخ على موسى (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وأن يبالغ في ذمّه، وإنَّما جاء بالموصول للادعاء بأنَّ ما في مضمون الصلة شيء قد عُرِفَ به موسى (عَلَيْهِ السَّلَامُ). المبحث الثاني: الدلالة النحوية الاحتمالية في البدل من الصلة وقد يقع الاحتمال في دلالة الصلة على أساس البدل، من ذلك قوله تعالى: ?وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ? [البقرة/8-9]. ففي الآية الشريفة يكون لدلالة صلة الاسم الموصول (مَن) احتمالان ناتجان عن تعدد الأوجه الإعرابية المحتملة لجملة (يخادعون الله) وعلى النحو الآتي: الأول: يحتمل قوله تعالى: (يخادعون الله) أن يكون بدلًا من الجملة الواقعة صلة لـ (مَن)، وهي قوله عزّ وجلّ: (يقول)، بدل كل من كل، غرضه البيان لجملة الصلة، بدأ به الزمخشري( )، وتابَعَهُ النسفي (ت710ه)( )، وقال أبو حيان: (( ويكون ذلك بيانًا لأنَّ قولهم آمنا وليسوا بمؤمنين في الحقيقة مخادعة فيكون بدل فعل من فعل لأنَّه في معناه))( )، وتقدير الكلام على هذا: ومن الناس من يخادعون الله، على أساس أن المبدل منه على نيّة الإسقاط. وذهب السمين الحلبي إلى أنَّه بدل اشتمال، فقال: ((ويكون هذا من بدل الاشتمال؛ لأنَّ قولهم كذا مشتمل على الخداع فهو نظير قوله: إنَّ عَلَيَّ اللهَ أن تُبايعا تُؤخَذُ كَرهًا أو تَجيئَ طائعا( ) فـ (تؤخذ) بدل اشتمال من (تبايع) ))( )، على أساس أنَّ الأخذ كرهًا هو صفة من صفات كثيرة تشملها المبايعة( ). الثاني: أن جملة (يخادعون الله) كلام مستأنف وقع جوابًا لسؤال مقدر، كأنَّ قائلًا يقول: ((لِمَ يدّعون الإيمان كاذبين وما نَفْعُهُم في ذلك فقيل يخادعون))( ). الثالث: ويحتمل أن تقع هذه الجملة (يخادعون الله) في موضع نصب حالًا من الضمير المستكن في (يقول)، ذكره أبو البقاء( )، وغيره( )، وعليه فتقدير الكلام: ومن الناس من يقول آمنا مخادعين الله. وذهب أبو البقاء إلى جواز أن يكون صاحب الحال هو الضمير في قوله تعالى: (بمؤمنين)، والتقدير: وما هم بمؤمنين حال خداعهم( ). ويبدو أنَّ الاحتمال الأول أولى بالترجيح لخلوه من الحذف والتقدير وظهور معنى البدليّة سواء أكانت بدل كل من كل أو بدل اشتمال، بخلاف باقي والاحتمالات والتي فيها من تكلف التقديرات ما لا يخفى. ومنها أيضًا قوله تعالى: ?وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ? [المؤمنون/103] إذ احتمل المفسرون لصلة الموصول في الآية المباركة قولين: الأول: أن يقع قوله تعالى: (في جهنم خالدون) بدلًا من الصلة التي هي (خسروا أنفسهم)، فكأنَّه قيل: الذين في جهنم خالدون، قاله الزمخشري( )، وغيره( ). وقال أبو حيان بعد أن أورد قول الزمخشري: ((وهذا بدل غريب، وحقيقته أن يكون البدل الفعل الذي يتعلق به في جهنم أي استقروا في جهنم وكأنَّه من بدل الشيء من الشيء وهما لمسمى واحد على سبيل المجاز لأنَّ من خسر نفسه استقر في جهنم))( ). الثاني: أن قوله عزّ وجلّ: (في جهنم خالدون) خبر ثان لأولئك بعد الخبر الأول (الذين خسروا)( ). فالآية على هذا قد أخبرت عن أولئك الذين خفت موازينهم بأنَّهم قد خسروا أنفسهم وأنَّهم في جهنم خالدون. الثالث: أن يكون القول خبرًا لمبتدأ محذوف، والتقدير: هم في جهنم خالدون، أجازه الزمخشري( )، ونقله عنه الرازي( ). ويمكن القول إنَّ الاحتمال الثاني أقرب إلى سياق الآية الكريمة، ففيه من التدرج في الإخبار عن حال هؤلاء الخاسرين الذين خسروا أنفسهم فكان حكم الله عليهم أنَّهم خالدون في جهنم، فضلًا عن بعده عن الحذف والتقدير كما في الاحتمال الأول والثالث. في قوله تعالى: ?أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ? [الزمر/3] تقوم الدلالة الاحتمالية لصلة الموصول في هذه الآية على أساس تقدير قول مضمر قد حذف وبقي معموله وهو قوله تعالى: (ما نعبدهم)، إذ ليس في الكلام ما يصلح أن يعود عليه، والتقدير: يقولون ما نعبدهم، ففي ضوء المحل الإعرابي الذي يحتمله ذلك المضمر يكون الاحتمال في الصلة وعلى النحو الآتي: الأول: أن يكون القول المضمر بدلًا من صلة الموصول (اتخذوا) وذلك في حال كون الاسم الموصول وصلته (الذين اتخذوا) في موضع رفع مبتدأ خبره قوله تــعالـى: (إنَّ الله يـحكم بـيـنـهـم)، أجـاز ذلك الزمخشـري( )، وقــال أبـو حيـان: ((وكأنّـَه مـن بدل الاشتمال))( )، والتقدير على هذا: والذين اتخذوا قالوا ما نعبدهم( ). الثاني: أن تكون صلة الموصول قوله عزّ وجلّ: (اتخذوا من دونه)، وذلك في حال كان القول المضمر خبرًا للمبتدأ (الذين اتخذوا)، قال الزمخشري: ((والذين اتخذوا في موضع الرفع على الابتداء، فإن قلت: فالخبر ما هو؟ قلت ... ما أضمر من القول قبل قوله ما نعبدهم))( )، أي والذين اتخذوا يقولون ما نعبدهم. ويجوز أن يكون المضمر حالًا، ويكون خبر المبتدأ (إنَّ الله يحكم بينهم)، والتقدير: قائلين ذلك( ). ويمكن القول بترجيح الاحتمال الأول وهو كون القول المضمر بدلًا من الصلة (اتخذوا)، فيكون موضع عناية الآية ـــــ على هذا ـــــ هو الإلفات إلى كذب ادعائهم بقولهم: (ما نعبدهم...) لأنَّ شرط العبادة الحقة ـــــ كما جاء في صدر الآية ـــــ أن تكون خالصة لله سبحانه. وفي قوله تعالى: ?الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى? [الليل/18] يكون لصلة الموصول وجهان من الدلالة الاحتمالية على أساس المحل الإعرابي المحتمل لقوله: (يتزكى)، وعلى النحو الآتي: الأول: أن يقع قوله تعالى: (يتزكى) بدلًا من الصلة (يؤتى) ومن ثمَّ فلا محل له من الإعراب؛ لأنَّه داخل في حكم الصلة، قاله الزمخشري( )، ونقله عنه الرازي( )، والتقدير على هذا: الذي يتزكى، على نية إسقاط المبدل منه، وعدّ أبو حيان هذا الوجه إعرابًا متكلفًا( ). الثاني: أن يكون قوله تعالى: (يتزكى) في موضع نصب حالًا من فاعل (يؤتى)، والتقدير: يؤتيه متزكيًا به، قاله الزمخشري( )، وغيره( ). والاحتمال الثاني أرجح لسببين، أحدهما: أنَّ معنى البدلية لا يتم مع فرض إسقاط المبدل منه، إذ إنَّ المعنى المراد لا يكتمل. والسبب الآخر الفعل يتزكّى ببنيته وموقعه الإعرابي دالٌّ على الكثرة والتدرج في الحدث وذلك مفهوم من صيغة المضارع على وزن (يتفعّل) الواقع حالًا.
المبحث الثالث: الدلالة النحوية الاحتمالية في العائد من الصلة من أسباب تعدد الاحتمال في الصلة، احتمال تعدد العائد على الموصول، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ?قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ? [يوسف/32] فيحتمل العائد على الموصول في هذه الآية أحد وجهين: الأول: أنَّ الضمير في قوله تعالى: (آمره)، عائد على الاسم الموصول (ما) أي: ما آمره به، قال الزمخشري: ((فإن قلت الضمير في آمره راجع إلى الموصول، أم إلى يوسف ؟ قلت: بل إلى الموصول، والمعنى: ما آمره به، فحذف الجار كما في قولك: أمرتك الخير))( )، واختاره أيضًا البيضاوي (ت685ه)( )، وأبو حيان( )، وذهب السمين الحلبي إلى أنَّ هذه الهاء تعود ـــــ في أحد وجهيها المحتملين ـــــ على (ما) الموصولة( ). وقال الآلوسي (ت1270ه): ((ثم إنَّها بعد أن اعترفت لهن بما سمعنه وتحدثن به ... ذكرت أنَّها مستمرة على ما كانت عليه لا يلويها عنها لوم ولا إعراض فقالت ولئن لم يفعل ما آمره أي الذي أمره به ... فما موصولة والجملة بعدها صلة والعائد الهاء، فقد حُذف حرف الجر منه فاتصل بالفعل وهذا أمرٌ شائع))( ). الثاني: أن يكون الضمير في (آمره) عائد على يوسف (عَلَيْهِ السَّلَامُ) والعائد على الموصول محذوف، إلّا أنَّ الزمخشري لم يجوّز عود الضمير على يوسف (عَلَيْهِ السَّلَامُ) إلّا إذا جُعِلت (ما) مصدرية فقال: ((ويجوز أن تجعل (ما) مصدرية، فيرجع إلى يوسف ومعناه: لئن لم يفعل أمري إياه، أي موجب أمري ومقتضاه))( ). أمّا السمين الحلبي فظاهر قوله أنَّه يجيز عود الهاء على يوسف (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وكون: (ما) موصولة إذ قال: ((والثاني أنّها موصولة، وهي مفعول بها بقوله تعالى: (يفعل) والهاء في (آمره) تحتمل وجهين أحدهما العود على (ما) الموصولة إذا جعلناها بمعنى الذي والثاني العود على يوسف))( )، فعلى هذا يكون العائد على الموصول محذوفًا. أمّا الآلوسي فذكر جواز أن يعود الضمير على يوسف (عَلَيْهِ السَّلَامُ) مع جعل (ما) موصولة، وقال: ((وجوز أن يكون الضمير الموجود هو العائد على يوسف، والعائد على الموصول محذوف أي به))( ). والذي يبدو أنَّ الاحتمال الأول أرجح، أي يكون المقصود من قولها (آمره) الفعل الذي أطلبه منه؛ لأنَّ سبب حديث النسوة كان أصل الفعل (المراودة)، فهذا الفعل ـــــ بلا شك ـــــ قبيح من كل امرأة، وهو أشدُّ قيحًا من امرأة العزيز، ثمّ زاد في قبحه أيضًا كون المُراوَد هو فتاها؛ لذا أقدمت على ذكر ذلك بعد أن حصل للنسوة ما حصل من الافتتان بيوسف وتقطيع الأيدي، بلا حياءٍ فكأنّها أرادت أن تبيّن لهنَّ عذرها في ذلك الفعل (المراودة) من جهة، وإصرارها عليه من جهة أخرى، والله العالم. كذلك في قوله تعالى: ?لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ? [الرعد/14]، تتردد دلالة الآية المباركة بين احتمالين، في ضوء تعدد احتمال العائد على الموصول فيها وعلى النحو الآتي: الأول: أن يكون المعنيّ بقوله تعالى: (والذين يدعون) هم الكفار والمشركون، ما يترتب عليه أن يكون العائد على الموصول هو الواو في قوله تعالى: (يدعون)، بدأ به الكرماني (ت505ه)( )، وأجازه الباقولي (ت542ه)( )، وغيره( )، والتقدير على هذا: ((والمشركون الذين يدعون الأصنام من دون الله لا يستجيبون لهم، أي لا يجيبونهم، أي إنَّ الأصنام لا تجيبهم بشيء))( ). الثاني: ويجوز أن يكون المعنيّ بـ (الذين يدعون) الأصنام، فيكون الضمير العائد على الموصول محذوفًا، على تقدير: يدعونهم، قاله الكرماني( )، ولم يذكر ابن عطية (ت542ه) غيره( )، وقال الرازي: ((يعني الآلِهَةَ الذين يدعونهم الكفار من دون الله))( ). وفي سبب جمع الأصنام جمع العقلاء يقول ابن عادل النعماني (ت880ه): ((إنَّما جمعهم جمع العقلاء إمّا للاختلاط لأنَّ آلهتهم عقلاء وجماد، وإمّا لمعاملتهم إيّاها معاملة العقلاء في زعمهم))( ). والذي يبدو أنَّ الاحتمال الثاني أرجح وهو كون المراد بـ (الذين يدعون) كل مدعوّ من دون الله سبحانه؛ لأنَّ الآية الشريفة عقدت مقابلة بين دعوة الحق دعوة الله تبارك وتعالى التي يُستجاب لها وبين دعوة سواه التي لا يُستجاب لها لعجز المدعو عن الإجابة. وفي قوله تعالى: ?أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ? [الرعد/ 33]( ) يكون لعائد الموصول (ما) في قوله تعالى: (بما لا يعلم) قولان: الأول: أن يكون الفاعل في قوله تعالى: (بما لا يعلم) عائدًا إلى الله، والعائد على الموصول محذوف، ذكره أبو حيان( )، وغيره( )، وتقدير الكلام على هذا: أتنبئون الله بما لا يعلمه. جاء في تفسير الأمثل في بيان معنى الآية: ((وهو كناية عن أنَّ الله سبحانه لو كان له مثل هؤلاء الشفعاء، فإنَّه يعلم بوجودهم في أي نقطة كانوا من السماء والأرض))( ). الثاني: أنَّ الفاعل في قوله تعالى: (لا يعلم) عائد على (ما)، فيكون التقدير: ((أتنبئون الله بشركة الأصنام التي لا تتصف بعلم البتة))( ). ويمكن القول إنَّ الوجه الأول أرجح فهو أنسب مع صدر الآية، وكأنَّه تعالى يقول ـــــ والله العالم ـــــ أتنبئون الله بشيء لا يعلمه وهو القائم على كلِّ نفسٍ بما كسبت. الخلاصة ? لاحظ البحث أنَّ الدلالتين اللغوية والاصطلاحية لمفهومي الاحتمال والدلالة النحوية الاحتمالية متقاربتان يجمعهما مفهوم الجهد والمشقّة. ? أظهر البحث أنَّ دراسة الصلة في بدايات الدرس النحوي لم تكن مستقلة عن دراسة الموصولات نفسها بل كانت في ضمنها. ? بيَّن البحث أنَّ النحاة في بدايات الدرس النحوي لم يستقرّوا على مصطلحٍ واحد لجملة الصلة، بل تردت تسمية الجملة الكاشفة عن إبهام الاسم الموصول بين تسميتي (الحشو) و(الصلة)، وسرعان ما استقرت التسمية عند مصطلح (الصلة). ? أظهر البحث أنَّ الاحتمال في جملة الصلة له ثلاث صور يظهر فيها هي: الاحتمال في العطف على الصلة، والاحتمال في البدل من الصلة، والاحتمال في العائد من الصلة. ? بيّن البحث أنَّ السياق القرآني كان واحدًا من أهم الأعمدة الأساسية التي اعتمدت في الترجيح بين الدلالات المحتملة للنص القرآني.
هوامش البحث
تحميل الملف المرفق Download Attached File
|
|