معلومات البحث الكاملة في مستودع بيانات الجامعة

عنوان البحث(Papers / Research Title)


تواتر القراءات بين النفي والإثبات وأثر ذلك على العقيدة


الناشر \ المحرر \ الكاتب (Author / Editor / Publisher)

 
محمد طالب مدلول الحسيني

Citation Information


محمد,طالب,مدلول,الحسيني , تواتر القراءات بين النفي والإثبات وأثر ذلك على العقيدة , Time 27/07/2019 13:11:07 : كلية العلوم الاسلامية

وصف الابستركت (Abstract)


يعرض للقراءات القرىنية بين الاثبات والنفي واثر لك على بعض المباحث العقدية

الوصف الكامل (Full Abstract)

تواتر القراءات بين النفي والإثبات وأثر ذلك على العقيدة
أ. م. د محمد طالب الحسيني (المعاون العلمي في كلية الدراسات القرآنية / جامعة بابل ).
رضا نصر الدين قاسم الموسوي
جامعة بابل/ كلية الدراسات القرآنية
rudhanasuraldeen@gmail.com
الخلاصة :
يسعى هذا البحث إلى بيان آثار القول بتواتر القراءات وعدمها على العقيدة, إذ أَّنَّ من المعلوم أنَّ هناك فريق من العلماء يقِر بتواترها ويقدسها غاية القداسة ويعدّها توقيفية من الله تعالى . وفريق آخر يعدها زيادات استحسنها القراء أنفسهم ولا علاقة لها بأصل القرآن لا من قريب ولا من بعيد, لذا وجد البحث تحت هذا التباين في الرأي آثارًا عقدية من كل طرفٍ على الآخر فحاول البحث إبراز ذلك الأثر وتبويبه من خلال بسط أقوال أهم العلماء في ذلك .
الكلمات المفتاحية : تواتر القراءات بين النفي والإثبات وأثر ذلك على العقيدة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الأوَّل بلا أوَّل كان قبله، والآخر بلا آخر يكون بعده، والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وآله الطاهرين . وبعد :
فإنَّ القرآن الكريم هو هداية الله العظمى، وبيّنتُهُ الخالدة، وهو شريعة الله ودينه الذي ارتضاه لعباده، من ابتغى الهدى في غيره فلن يُقبَلَ منه، ومن اعتصم به فلن يضل عن صراط ربه.
لقد كانت قراءات القرآن الكريم وما زالت محطَّ أنظار المسلمين ومن دونهم منذ صدر الإسلام الأول والى عصرنا هذا, فكان موضوعها غاية الباحثين وجهدهم, وهم بذلك مردَّدُون بين صدورها من عند الله تعالى والنبي (ص) أو العدم, فكثرة الدراسات القرآنية حول أثر تواتر القراءات من عدمها على العلوم الشرعية وخصوصًا المسائل الفقهية, حتى اهتم بذلك أكثر الفقهاء جميع المذاهب الإسلامية, وهذا الأمر قد بُحث كثيرًا في أروقة العلم, إلا أن الباحث لمس عدم وجود أبحاث سلطت الضوء على أثر تواتر القراءات وعدمها على العقيدة, فمن المعلوم أنَّ تواتر القراءات من أكثر الإشكاليات التي أرَّقت الأمة الإسلامية وتأثر بذلك جميع العلوم الإسلامية المرتبطة بالقرآن الكريم .
ومن ينظر إلى موضوع ( تواتر القراءات ) سيجد أنَّ هناك فريقين رئيسين الأول يقِر بتواترها ويقدسها غاية القداسة ويعدّها توقيفية من الله تعالى . والثاني يعدها زيادات استحسنها القراء أنفسهم ولا علاقة لها بأصل القرآن لا من قريب ولا من بعيد, وتحت هذا التباين في الرأي تولَّدت آثارًا عقدية من كل طرفٍ على الآخر, فنكَّل أصحاب التواتر بمخالفيهم حتى رموهم بالتكفير في بعض الأحيان . وأتهم أصحاب (عدم التواتر) مخالفيهم بأن القراءات ما هي ألا ضرب من ضروب التحريف, استحسنها قرائها لأسباب متعددة . ومعلوم لدى القارئ النتائج المترتبة للتكفير والتحريف على العقيدة الإسلامية الحقة فأراد البحث تسليط الضوء على هذه النكات وبسط أقوال أهم العلماء في هذه النكتة المهمة, ولهذا جاء البحث بعنوان ((تواتر القراءات بين النفي والإثبات وأثر ذلك على العقيدة)).
ونظرًا لطبيعة البحث وخصوصياته فقد قسمته إلى مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة, فقد تناولت في المبحث الأول مفهوم القراءات في اللّغة والاصطلاح والعلاقة بينها وبين القرآن, وجاء المبحث الثاني بعنوان تواتر القراءات بين النفي الإثبات, وأما المبحث الثالث فوسم بــ دعوى النفي والإثبات لتواتر القراءات وعلاقته بالتحريف والتكفير
وأختتم البحث بأهم النتائج التي توصل إليها, وأعقبتها قائمة للمصادر والمراجع التي أعتمدها الباحث.
المطلب الأوَّل : مفهوم القراءات في اللّغة والاصطلاح والعلاقة بينها وبين القرآن :
أولًا : القراءات في اللّغة :
القراءات : جمعٌ مفردها قراءة من قَرَأ. يقال: (قَرَأ فلان قِراءةً حسنة . فالقرآن مقروءٌ، وأنا قارئٌ , ورجل قارئٌ عابد ناسك وفعله التَّقرّي والقِراءة)( ) . ومادة (قَرَأَ) تدور في لسان العرب حول الجمع والاجتماع ( ) .
قال ابن الأثير (606هــ) : ( الأصل في هذه اللفظة الجمع , وكل شيء جمعته فقد قرأته)( ) . ويقول ابن منظور : (معنى قَرَأْتُ القرآن لَفَظْت به مَجْمُوعًا أَي أَلقيته)( )
ويُستَخلَص من آراء علماء العربية بأن القراءة من قرأ وهي تحوم حول الجمع والاجتماع .
ثانيًا : القراءات اصطلاحًا :
على الرّغم من انتشار المدوّنات الخاصّة بالقراءات القرآنيّة - فضلًا عن المدوّنات التفسيريّة - الا أنّها لم تتعرّض إلى بيان التعريف الإصطلاحي لهذا العلم، واستمرّ هذا الحال حتّى ظهور المدوّنات الجامعة لمسائل هذا المصطلح القرآنيّ، فضلًا عن مدوّنات علوم القرآن, والسبب – فيما أعتقد - يعود الى أنَّها معروفة عندهم على البداهة ولا يرون داعيًا لتحديد مفهومها الإصطلاحي . ومن هذه التعريفات :
ما جاء عن الزركشي (ت: 794هــ) , وذلك حينما فرَّق بينها وبين القرآن فقال : ( القرآن : هو الوحي المنزل على محمَّد (صلى الله عليه وآله وسلم) للبيان والإعجاز .والقراءات : اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما)( ) .
ويلاحظ على تعريفه : تخصيصه القراءات بالمختلف فيه من الفاظ القرآن الكريم , بينما نجد علماء القراءات في دائرة شمول القراءات إلى المتفق عليه أيضًا , وذلك في تعريفهم لعلم القراءات( ) .
ويرجِّح البحث بأنَّ الزركشي إنما خصص القراءات بالمختلف فيه فقط لأن مواضع الاتفاق ليست قراءات وإنما هي قرآن , ومواضع الإختلاف منها ما يصح كونه قرآنًا ومنها ما لا يصح, ويؤيد هذا الترجيح هو تعريفه للقراءات في قِبال تعريفه للقران ولم يأت بهذا التعريف مستقلًا ذا غرض وقصد ولكن جاء به عَرَضًا لتفريقٍ بينها والقرآن وليثبت ما صَرَّح به قبل تعريفه هذا, اذ قال :(واعلم أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان فالقرآن هو الوحي المنزل) وعليه فلا ينظر إليه كحدٍّ يُطلَب فيه كونه جامعًا مانعًا – كما يقول المناطقة –
وعرَّفها شمس الدين ابن الجزري (ت : 833هـ ) بقوله : (علم بكيفيات أداء كلمات القرآن ، واختلافها معزوًّا لناقله)( ) .
أمّا شهاب الدين القسطلاني (ت:923هـ) فذهب إلى القول بأنّ (القراءات) هي : (علمٌ يُعرف منه اتِّفاق الناقلين لكتاب الله، واختلافهم في اللّغة والإعراب، والحذف والإثبات، والتحريك والإسكان ,والفصل والإتصال , وغير ذلك من هيئة النطق والإبدال من حيث السماع)( ) . واورد شهاب الدين البناء (ت: 1117هـ) تعريف القسطلاني فاكتفى به( )
ويُفهَم من خلال تعاريف ابن الجزري والقسطلاني والدمياطي بانهم اشترطوا في القراءة النقل والسماع( ) .
وللمعاصرين - من اصحاب هذا الفنَّ - تعريفات اكثر شمولًا وجمعًا لما أضافه هؤلاء على تعاريف السابقين . فمنهم الشيخ محمَّد الزرقاني(ت: 1122هــ) الذي عرَّف القراءة بقوله : (مذهب يَذهب إليه إمام من أئمة القراء مخالفا به غيره في النطق بالقرآن الكريم مع اتفاق الروايات والطرق عنه سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف أم في نطق هيئاتها)( ) .
ويرى الشيخ عبد الفتاح القاضي (ت :1403هــ)وهو أحد أئمّة هذا الفنّ , أنّ (القراءات) هي : (علمٌ يُعرف به كيفيّة النطق بالكلمات القرآنيّة ، وطريق أدائها اتِّفاقًا واختلافًا مع عزو كلّ وجهٍ لناقله )( ) .
ومال الشيخ منَّاع القطَّان(ت: 1420هــ) في تعريفه للقراءات إلى ما يقارب من تعريف ابن الجزري , قال : هي – أي القراءات - ( مذاهب الناقلين لكتاب الله عز وجل في كيفية أداء الكلمات القرآنيّة)( ) .
وأخيرًا يرى الدكتور عبد الهادي الفضلي(ت: 1434 هــ) انَّ القراءة: (هي النطق بألفاظ القرآن كما نطقها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو كما نُطقت أمامه فأقرها , سواءً كان النطق باللفظ المنقول عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعلًا أو تقريرًا, واحدًا ام متعددًا )( ).
ويفهم من قول الفضلي (أو كما نطقت أمامه فأقرها) أن القراءات أما كونها نزلت ابتداءً أو إقرارًا من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن أذن فيها ,ومسألة الإقرار شرط جديد اضافه الفضلي في تعريفه .
ونخلص من خلال ما سبق من التعريفات أنَ للعلماء في هذا إتجاهين :
الإتجاه الأوَّل : يعدَّ القراءات مصطلحًا واسعَ المفهوم فهو يشمل ألفاظَ القرآن المتفق عليها والمختلف فيها ونرى ذلك جليًا من خلال تعريف : ابن الجزري و والقسطلاني والبنا الدمياطي وغيرهم .
الإتجاه الثاني : يعدّ مصطلح القراءات ضيق الدلالة يدخل فيه الحديث في الألفاظ المختلف فيها دون المتفق فيها, وهذا متبنى الزركشي والزرقاني وغيرهما .
ثالثًا : العلاقة بين القرآن والقراءات :
يمكن إجمال العلاقة بين القرآن والقراءات إلى ثلاثة آراء :
الأوَّل : ذهب شطر من العلماء إلى أنَّ القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان – وهو المشهور – وعلى رأسهم الشيخ برهان الدين الزركشي , حيث يقول: (واعلم أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان فالقرآن هو الوحي المنزل على محمَّد (صلى الله عليه وسلم) للبيان والإعجاز, والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتابة الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما)( ) .
واعتنق محمَّد الزرقاني هذا المذهب فقرَّ بعدم وجود ملازمة بين تواتر القرآن وتواتر القراءات بقوله: (فإن القول بعدم تواتر القراءات السبع لا يستلزم القول بعدم تواتر القرآن , كيف وهناك فرق بين القرآن والقراءات السبع, بحيث يصح أن يكون القرآن متواترًا في غير القراءات السبع, أو في القدر الذي اتفق عليه القراء جميعًا,أو في القدر الذي اتفق عليه عددٌ يؤمن تواطؤهم على الكذب قرّاء كانوا أو غير قرّاء)( ) .
ويؤيد هذا المذهب الإمام الخوئي لارتباطه بمسألة "تواتر القراءات" يقول : (إنَّ تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات، لان الإختلاف في كيفية الكلمة لا ينافي الإتفاق على أصلها ، ولهذا نجد أن اختلاف الرواة في بعض ألفاظ قصائد المتنبي - مثلا - لا يصادم تواتر القصيدة عنه وثبوتها له، وان اختلاف الرواة في خصوصيات هجرة النبي لا ينافي تواتر الهجرة نفسها)( ) .
لذلك يجب علينا ان نميّز بين القراءات والقرآن, حيث ان القرآن أمرٌ يتصل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والقراءة أمر آخر يتعلق بالقراء أنفسهم , فالأول يشمل الفاظ الوحي خاصة , والثاني يشمل كيفية قراءة تلك الألفاظ , لذلك نرى أنَّ كثيرًا من الاعلام قد أكَّدوا هذه الحقيقة في مصنفاتهم وذلك لئلا يحصل التباس بين الحقيقتين وينتج عن ذلك الإقرار بعدم وجود ملازمة بين مفهوم التواتر للقرآن والتواتر في القراءات لأنهما حقيقتان متغايرتان ( ).
الثاني : قاله الدكتور محمَّد سالم محيسن (ت:1422هــ) صاحب كتاب "في رحاب القرآن الكريم" فهو يرى أنَّ كلا من القرآن والقراءات حقيقتان بمعنى واحد , مستندًا إلى تعريف القرآن مصدر مرادف للقراءة, والقراءات جمع قراءة فهما عنده بمعنى واحد , كما استند إلى بعض الأحاديث التي يأمر الله فيها رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بان يقريء أمته القرآن على سبعة احرف , وخلص من رأيه المنفرد هذا بقوله : (وكلها تدل دلالةً واضحة على أنَّه لا فرق بين كلٍّ من القرآن والقراءات , إذ كلّ منهما الوحي المنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم))( ) .
ورأي الدكتور محمَّد محيسن رأي تفرد به فلم يقل به أحد من العلماء السابقين – بحسب اطلاع الباحث– وعليه فلا يمكن ان يقال : إنَّ القرآن والقراءات حقيقتان متحدتان وذلك لأمور:
أولًا : لأن القراءات على اختلاف أنواعها لا تشمل كلمات القرآن الكريم كلّه , بل هي موجودة في بعض ألفاظه فقط , فكيف يقال إنهما حقيقتان متحدتان .
ثانيًا : التعريف المتقدم للقراءات يشمل القراءات المتواترة التي يصح أن يقرأ بها القرآن , كما يشمل القراءات الشاذة , والتي أجمع العلماء على انه لا يصح قراءة القرآن بها , لأنها لم تستجمع أركان القراءة الصحيحة وهي التواتر, وموافقة الرسم العثماني , وموافقة وجه من وجوه اللّغة العربية( ) . فالقراءة التي تفقد أهم الأركان , وهو التواتر لا يصح أن نطلق عليها اسم القرآن , ولا تصح قراءته بها( ) .
وعلى هذا فالقراءات هي غير القرآن، وبينهما تغاير كلي فهما حقيقتان متغايرتان؛ لأن الشاذة حتى لو ثبتت قراءة منها بسند صحيح لا يعتقد قرآنيتها؛ بل تعتبر من الأخبار الآحاد، والخبر الواحد من أقسام الحديث، والحديث غير القرآن( ) .
الثالث: التفرقة بين ما توفرت فيه شروط القراءة الصحيحة (صحة السند, موافقة العربية, ومطابقة الرسم)( ) فيعدّ قرآنًا, وبين ما تختلف فيه ولو شرط منها, فيُعدّ قراءة فقط( ) . والمشهور بين هذه الآراء الثلاثة هو الرأي الأول كما تقدم بيانه .
المبحث الثاني : (تواتر القراءات بين النفي الإثبات) أو أهم القائلين بالتواتر وعدمه
دار الجدل قديمًا وحديثًا في إثبات تواتر القراءات القرآنيّة ونفي تواترها, ولا يخفى على المطلع اللبيب أثر ذلك على جلّ العلوم الشرعية ,منها المسائل الإعتقادية, فالقول بالتواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يستلزم حجية هذه القراءات وبالتالي لزوم الجمع بين القراءات عند تعارضها ، كما يجب الجمع بين الآيات عند تعارضها ظاهرًا وكذلك استفادة الأحكام الشرعية من كلٍّ منها ، وتكون حجة في الاستدلال . والقول بعدم التواتر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يثبت عدم حجية هذه القراءات وبالتالي نفي كلّ ما ثبت للأول .
وتواترها عن أصحابها تكاد تجمع عليه الأمة, وأدنى اطّلاع على سند تلك القراءات يبين لنا هذه الحقيقة, لكنَّ الكلام والتحقيق في تواترها عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبالتالي توقيفية هذه القراءات . فهنا اختلف علماء الأمة من الفريقين , قال الزركشي : (والتحقيق أنها متواترة عن الأئمة السبعة ، أما تواترها عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ففيه نظر، فإنَّ إسناد الأئمة السبعة بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات ، وهي نقل الواحد عن الواحد)( ) . والى هذا ذهب أبو شامة(ت:665هــ)( ) , وابن الجزري (ت:833هــ)( ). وسيعرض البحث أقوال كبار العلماء من الفريقين ليؤسس بعد ذلك أنَّ هذه الأقوال لم يكن تأثيرها على الفقه والتفسير وغيرها, فحسب بل تعدى إلى القضايا العقديَّة .
قبل أن نتعرف على مذاهب العلماء في تواتر القراءات من عدمها حريّ بنا ان نتعرف على "مصطلح التواتر" على سبيل الإجمال . فالتواتر هو : رواية الجمع عن الجمع ، الذين يمتنع اتفاقهم على الكذب ، أو الخطأ( ). وفصّله بعضهم فقال : خبر التواتر ، هو:
1. ما يُخبَر به القوم الذين يبلغ عددهم حدٍّا يُعلم عند مشاهدتهم بمستقر العادة أن اتفاق الكذب عندهم محال .
2. وأن التواطؤَ منهم في مقدار الوقت الذي انتشر الخبر عنهم فيه متعذر .
3. وأن ما أخبروا عنه لا يجوز دخول اللبس والشبهة في مثله ، وأن أسباب القهر والغلبة والأمور الداعية إلى الكذب منتفية عنهم .
فمتى تواتر الخبر عن قوم هذه سبيلهم ، قطع على صدقه ، وأوجب وقوع العلم ضرورة( ) . وأما مذاهب العلماء في مسألة التواتر نبينها بالآتي :
أولًا : القائلون بتواتر القراءات القرآنيّة :
ذهبت جماعة من العلماء إلى تواتر القراءات القرآنيّة سواء كانت سبعة ، أو عشرة ، أو أكثر( ) , عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم), فهي من كلمات الوحي نزل بها جبريل على صدر نبينا الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم). ومن أشهر العلماء الذين صرحوا بالتواتر ونحوا هذا الإتجاه :
القاضي أبو بكر الباقلاني الأشعري (ت403هـ) حيث يرى : ( أن القراءات قرآن منزل من عند الله تعالى ، وأنها تنقل خلفًا عن سَلَف ، وأنهم أخذوها من طريق الرواية ، لا من جهة الاجتهاد ، لأن المتواتر المشهور أن القرّاء السبعة : إنما أخذوا القرآن رواية لأنهم يمتنعون من القراءة بما لم يسمعوه )( ) . وردَّ الباقلاني عمن نسب الإقراء إلى الاجتهاد والاستحسان , فقال : (وقال قوم من المتكلِّمين : إنه يسوغ إعمال الرأي والاجتهاد في إثبات القرآن وأوجه وأحرف إذا كانت تلك الأوجه صوابًا في اللّغة العربية ومما يسوغ التكلّم بها, وان لم تقم حجة بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قرأ تلك المواضع (...) وأبا ذلك أهل الحق وأنكروه، وخطّأوا من قال بذلك وصار إليه)( ) .
ويفهم من كلام الباقلاني أنَّ مصدر القراءات الوحي نفسه, وَنَقَلها الخلفُ عن السلف, ومن يكن هذا شأنه يكون بعيدًا عن الاجتهاد والترجيح .
وهكذا ابن حزم الظاهري (ت456هـ ) فالصحيح – عنده - أن القراءات السبع التي نزل بها القرآن باقية عندنا كلها( ) .
وهكذا الشيخ زكريا الانصاري (ت : 926هـ) أقرَّ أنَّ القراءات السبع المروية عن القراء السبعة متواترة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الينا نقلها عنه جمع يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب لمثلهم وهلم ( ).
اما الشيخ شهاب الدين المعروف ب " البناء "(ت: 1117هـ) فذهب إلى أبعد من ذلك , اذ جعل القول بتواتر القراءات العشر من الدين بالضرورة, ويُعلَم أنَّ مخالفة مثل هذا القول يستلزم التكفير – كما سيأتي – لارتباطه بضروريات الدين . يقول البناء : (إنَّ القراءات العشر متواترة ومعلومة من الدين بالضرورة , وإنها منزلة على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ان السبع متواترة اتفاقًا وكذا الثلاثة على الأصح وهو الذي تلقيناه من عامة شيوخنا)( ) .
والمعروف من مذهب أهل البيت (عليهم السلام) أنّهم لا يقبلون بتعدّدية النصّ القرآني، بل يرونه طارئًا على الفكر الإِسلامي، لأن النازل من عند الله الواحد عندهم هو نص واحد، وقد نزل على رجل واحد، وهذا ما خطه الإمام الباقر (عليه السلام) في مسألة الإختلاف في القراءات فعن زرارة بسندٍ صحيح عن أبي جعفرٍ الباقر (عليه السلام) أنّه قال : ( إِنّ القرآن واحد نزل من عند واحد، ولكن الإختلاف يجيء من قِبَل الرُّواة)( ) .
ولأجل هذا كذّب الإمام مَن فسّر الأحرف السبعة بتعدّد القراءات ( ), وعلى ذلك سار فقهاء الإماميَّة خلفًا عن سَلَف . نعم أخذوا من القراءات المشهورة المتلقاة بالقبول لدى عامة المسلمين طريقًا إلى القرآن الموحى إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا بجواز القراءة بما يتداوله القراء المعروفون وبذلك صح أحاديثهم المروية عن أهل البيت (عليه السلام) , وعملهم الذي ساروا عليه في الفقه والاستنباط( ) .
وقد شذَّ عن هذا الاجماع بعض العلماء فانضموا إلى قائمة القائلين بالتواتر منهم :العلّامة الحلي(ت:726هــ) فقال في تجويزه اختيار المكلف أي قراءة شاء , ما لفظه : ( يجوز أن يقرأ بأي قراءة شاء من السبع لتواترها أجمع ) ( ) . ومنهم الشيخ محمَّد بن جمال الدين مكي العاملي (ت :786هــ) المعروف ب " الشهيد الأوَّل" حيث قال :( يجوز القراءة بالمتواتر , ولا يجوز بالشواذ , ومنع بعض الأصحاب من قراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف وهي كمال العشر , والاصح جوازها , لثبوت تواترها كثبوت قراءة القراء السبعة )( ) . وغيرهم ( ) .
(والذي ينبغي ان يذكر في المقام إن العلّامة الحلي هو أول من ادعى تواتر السبع المشهورة ثم زاد عليها الشهيد الأوَّل دعوى أخرى اضافية مفادها تواتر قراءات القراء الثلاثة وهي كمال العشر في القرن الثامن الهجري وهذه الدعوى الأخيرة هي الأساس الذي اوقع من جاء بعد عصره في الالتباس وتأثث شباك الوسواس الخناس اما قبل القرن الثامن الهجري فلم يكن لهذه الفريد والدعوى عين ولا أثر)( ) .
ومن أشهر حجج القائلين بالتواتر هو ادعائهم بأنَّ القراءات القرآنيّة لو لم تكن متواترة لم يكن القرآن متواترًا, والثاني باطل بالضرورة, ويذهبون أنَّ فيها اجماعًا من السلف إلى الخلف على تواترها واهتمام الصحابة والتابعين بالقرآن يقضي بتواتر قراءته( ) . ويُرَدُّ ادعائهم الأوَّل إن لم تكن القراءات متواترة لم يكن القرآن متواترًا, بما اشتهر بين المحققين بأنَّ تواتر القرآن وتواتر القراءات حقيقتان متغايرتان ومرَّ بيان هذه الحقيقة سابقًا فلا داعي لتكراره هنا .
ودعوى قيام الاجماع عليه من السلف إلى الخلف, فواضح فساد هذه الدعوى, لأن الإجماع لا يتحقق باتفاق أهل مذهب واحد عند مخالفة الآخرين . ثم دليلهم هذا إنما يثبت تواتر القرآن نفسه ، لا تواتر كيفية قراءته ،وخصوصا مع كون القراءة عند جمع منهم مبتنية على الاجتهاد ، أو على السماع ولو من الواحد , ولولا ذلك لكان مقتضى هذا الدليل أن تكون جميع القراءات متواترة ، ولا وجه لتخصيص الحكم بالسبع أو العشر . والمعروف في عرف القراءات بأن ابن مجاهد هو الذي حصر القراءات بالسبعة ، ولم يكن له قبل هذا الزمان عين ولا أثر ، ولازم ذلك أن نلتزم إما بتواتر الجميع من غير تفرقة بين القراءات ، وإما بعدم تواتر شيء منها في مورد الإختلاف ، والاول باطل قطعًا فيكون الثاني هو المتعين( ) .
ثانيا : القائلون بعدم تواتر القراءات القرآنيّة :
وفي قِبال القول بالتواتر صرَّح الكثير من العلماء والباحثين قديمًا وحديثًا على عدم تواتر هذه القراءات عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يكون هو الذي قرأها بهذه الوجوه التي لم يتنبه لها سوى قرَّاء سبعة أو عشرة جاءوا في عصور متأخرة , وكذلك هي أخبار آحاد ومستند رأيهم هذا, هو أن أسانيد هذه القراءات لم تستكمل شروط التواتر – كما مرّ - إذ هي مدونة في كتبهم , وهي نقل الواحد عن الواحد , والتواتر يشترط عدد تحيل العادة تواطؤهم على الكذب, فلم يتحقق التواتر في أسانيد القراء . وسيذكر البحث بعض تصريحات كبار العلماء من أئمة هذا الفنَّ وغيرهم , تدل على انكارهم لهذا التواتر المزعوم :
يفهم عدم تواتر القراءات السبعة من ابن جرير الطبري (ت :310 هـ) فكان غالبًا ما يفضل قراءة على اخرى من القراءات المشهورة, (فإننا اذا تتبعنا القراءات التي تعرض لها في تفسيره نجده يرجح ويفاضل بين القراءة المتواترة وأخرى مثلها )( ), ومن اوضح الشواهد على ذلك عند تأويله قوله تعالى : چ ? ? ? ? ? ? چ چ چ ( ) يقول : (واختلفت القرّاء في قراءة قوله (وَمَنْ يَقْنَطُ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء المدينة والكوفة (وَمَنْ يَقْنَطُ) بفتح النون، إلا الأعمش والكسائي فإنهما كسرا النون من (يَقْنِط) ... فكسرها في (وَمَنْ يَقْنِطُ) أولى إذا كان مجمعا على فتحها في قَنَط، لأن فَعَل إذا كانت عين الفعل منها مفتوحة، ولم تكن من الحروف الستة التي هي حروف الحلق، فإنها تكون في يفْعِل مكسورة أو مضمومة. فأما الفتح فلا يُعرف ذلك في كلام العرب)( ) . فالطبري جعل أولوية الصواب لكسر النون, وهي قراءة البصريين والكسائي وخلف , والباقون من العشرة بفتح النون وهم نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة وابو جعفر فرَدَّ قراءتهم وهم من القراء العشرة ( ) .
ويَستنتج من كلام الطبري وأسلوبه في التعامل مع القراءات في تفسيره , بانَّ القراءات لديه غير متواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والا فما صحَّ له ان يفاضل بين القراءات المواترة لانَّ المفاضلة بين القراءتين المتواترتين -عند القائلين بتواتر القراءات عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)- أمرٌ مرفوض ومردود( ) .
ومثل ذلك كان لدى الإمام جار الله الزمخشري المعتزلي (ت : 538 هـ) من القراءات, فأدنى اطلاع على تفسيره نلمس مفاضلته بين القراءات المتواترة فتراه يرجح بعضها على بعض دون ان يكون معيار التواتر حاضرًا في ترجيحاته( ), على حين انَّ المفاضلة بين القراءتين المتواترتين – كما اسلفنا - أمر مرفوض ومردود.
اشتهر عن الزمخشري طعنه في قراءة ابن عامر – وهو من القراء السبعة – ويتوضح ذلك في قراءة ابن عامر بإضافة القتل إلى الشركاء مع فصل المفعول به في قوله تعالى : چ ? ? ? ? ? ? ? ? چ( ), قال الزمخشري رادًا على اختيار ابن عامر :( وأما قراءة ابن عامر: قتل أولادهم شركائهم برفع القتل ونصب الأولاد وجرّ الشركاء على إضافة القتل إلى الشركاء، والفصل بينهما بغير الظرف، فشيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر، لكان سمجًا مردودًا(...), فكيف به في الكلام المنثور، فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته. والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوبًا بالياء)( ), ولو كان الزمخشري يعتقد بتواتر هذه القراءات لم يردَّ قراءة ابن عامر بل يفهم منه اعتقاده ان الاختيار هو للقارئ – ابن عامر- وليس للوحي نصيب في هذا الإختلاف , وبذلك ثارت الضجة عليه من كلّ حدب وصوب تتهمه بالتشكيك بقراءة متواترة وبالتالي توهين القراء المقبولين وهذين الامرين يوجبان الخروج عن الدين الإِسلامي الحنيف وضرورياته. لذا ترى العلماء تسابقوا في الردِّ عليه لما وجدوا في قوله الذي يمسّ جانب تواتر القراءات عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
واستشكل فخر الدين الرَّازي (ت606هـ) على القائلين بالتواتر, فقال : (اتفق الأكثرون على أن القراءات المشهورة منقولة بالنقل المتواتر وفيه إشكال : وذلك لأنا نقول : هذه القراءات المشهورة إما أن تكون منقولة بالنقل المتواتر أو لا تكون ، فإن كان الأوَّل فحينئذٍ قد ثبت بالنقل المتواتر أن الله تعالى قد خير المكلفين بين هذه القراءات وسوى بينها في الجواز ، وإذا كان كذلك كان ترجيح بعضها على البعض واقعًا على خلاف الحكم الثابت بالتواتر ، فوجب أن يكون الذاهبون إلى ترجيح البعض على البعض مستوجبين للتفسيق إن لم يلزمهم التكفير ، لكنا نرى أن كلّ واحد من هؤلاء القراء يختص بنوع معين من القراءة ، ويحمل الناس عليها ويمنعهم من غيرها ، فوجب أن يلزم في حقهم ما ذكرناه ، وأما إن قلنا إن هذه القراءات ما ثبتت بالتواتر بل بطريق الآحاد فحينئذٍ يخرج القرآن عن كونه مفيدًا للجزم والقطع واليقين، وذلك باطل بالإجماع ، ولقائل أن يجيب عنه فيقول : بعضها متواتر، ولا خلاف بين الأمة فيه ، وتجويز القراءة بكل واحد منها، وبعضها من باب الآحاد وكون بعض القراءات من باب الآحاد لا يقتضي خروج القرآن بكليته عن كونه قطعيًا، والله أعلم)( )
ويفهم من كلام الرَّازي انه لا يذهب إلى تواتر القراءات القرآنيّة وخصوصًا بعدما ثبت الترجيح بين القراءات عند العلماء والذي يستلزم التفسيق بل قد يلزم التكفير لمن اعتقد بتواترها , ولكنه – وبحسب كلامه الاخير- خلَّط بين تواتر القراءات وتواتر القرآن فذهب إلى أنَّ طريق الآحاد في القراءة يخرَّج القرآن عند التواتر , وثبت على الأشهر – كما بينا سابقًا – بأنَّ تواتر القراءات وتواتر القرآن حقيقتان متغايرتان( ) .
ومن أئمة هذا الفنَّ والذي يشار اليه بالبَنان, الإمام "شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة (ت : 665هـ) يقول في مسألة التواتر ( فالحاصل إنا لسنا ممن يلتزم التواتر في جميع الألفاظ المختلف فيها بين القراء، بل القراءات كلها منقسمة إلى متواتر وغير متواتر، وذلك بين لمن أنصف وعرف وتصفح القراءات وطرقها)( ) .
والغريب أنَّ الشيخ محمَّد عبد العظيم الزرقاني (ت : 1367هـ ) , قد أيَّد ما ذهب إليه أبو شامة في مسألة التواتر, وصرَّح بأنه امثل الآراء وذلك في الطبعة الأولى( ) من كتابه "مناهل العرفان في علوم القرآن" الا أنه ما لبث ان غير رأيه في الطبعات التي بعدها مستدركًا على اختياره السابق فحكم بتواتر القراءات عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم), فقال ما لفظه :( لكني بعد معاودة البحث والنظر واتساع أفق اطلاعي فيما كتب أهل التحقيق في هذا الشأن تبين لي أن أبا شامة أخطأه الصواب أيضًا فيمن أخطأ وأنني أخطأت في مشايعته وتأييده)( ) .
وهذا إمام فنّ القراءات شمس الدين أبو الخير ابن الجزري (ت : 833 هـ) يصرح بما يفهم منه عدم تواترها, يقول :( كلّ قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا، وصحَّ سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردَّها، ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها سواء كانت عن الأئمة السبعة أم عن العشرة، أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى إختلَّ ركن من هذه الأركان الثلاثة أُطِلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت من السبعة أم ممن هو أكبر منهم )( ) .
ومن المحدثين الدكتور طه حسين (ت: 1393هــ) ذهب إلى عدم تواتر هذه القراءات عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل هي – عنده - ليست من الوحي في شيء ويميل إلى انها مظهر من مظاهر اختلاف اللهجات ,وقد كلفه هذا الاعتراف كثيرًا , يقول ما نصّه : (وهنا وقفة لابدَّ منها, ذلك أن قومًا من رجال الدين فهموا أن هذه القراءات السبع مواترة عن النبي نزل بها جبريل على قلبه , فمنكرها كافر من غير شك وريبة . ولم يوفقوا لدليل يستدلون به على ما يقولون سوى ما روي في الصحيح من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( أنزل القرآن على سبعة أحرف )( ), والحق أن ليست هذه القراءات السبع من الوحي في قليل ولا كثير وليس منكرها كافرًا ولا فاسقًا ولا مغتمزًا في دينه , وإنما هي قراءات مصدرها اللهجات واختلافها ...فانت ترى أنَّ هذه القراءات التي عرضناها إنما هي مظهر من مظاهر اختلاف اللهجات)( ) .
اجمعت الإماميَّة على عدم تواتر هذه القراءات - الا من شذَّ - وانها اخبار آحاد تنسب إلى اجتهادات رواتها, والقراءات كثيرة ، وهي مبتنية على اجتهادات ظنية توجب تغيير كيفية القراءة . واستمد الإماميَّة اجماعهم هذا, من أحاديث صحيحة وردت عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) تثبت هذه الحقيقة وتؤكدها . فمن هذه الروايات :
ما روي عن زرارة بسند صحيح عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال : (إن القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن الإختلاف يجيئ من قبل الرواة)( ) .
وما رواه الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله (عليه السلام) حيث سأله عن اختلاف القراءات ؟ وقال : إن الناس يقولون: إن القرآن نزل على سبعة أحرف، فقال: كذبوا أعداء الله ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد( ) .
ومن منطلق هذه الروايات جاءت آراء علماء الإماميَّة قديمًا وحديثًا مرسّخة هذه الحقيقة وكونها من أسسهم الثابتة . فمن القدماء ومنهم شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي (ت460هـ) بيّن هذا الاجماع بقوله : (واعلموا أنَّ العرف من مذهب أصحابنا والشائع من أخبارهم ورواياتهم أن القرآن نزل بحرف واحد على نبي واحد ...وأن الإنسان مخير بأي ّقراءة شاء قرأ)( ).
وأما من المحدثين فاختار البحث السَّيدين البلاغي والخوئي, فأما العلّامة محمَّد جواد البلاغي (ت: 1352هــ) فيقول ما لفظه :( وأن القراءات السبع فضلا عن العشر إنما هي في صورة بعض الكلمات لا بزيادة كلمة أو نقصها ، ومع ذلك ما هي إلا روايات آحاد عن آحاد لا توجب اطمئنانا ولا وثوقا فضلا عن وهنها بالتعارض ومخالفتها للرسم المتداول بين عامة المسلمين في السنين المتطاولة(...) فيا للعجب ممن يصف هذه القراءات السبع بأنها متواترة)( ) .
وهكذا الإمام أبو القاسم الخوئي(ت:1413هــ) بعد أن ساق أدلة الفريقين أصحاب التواتر و عدمه , رجَّح كون هذه القراءات غير متواترة بل التواتر للقران نفسه دونها وتواتر القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان واستدل السَّيد الخوئي على مذهبه بأمور :
الأوَّل : إن استقراء حال الرواة يورث القطع بأن القراءات نقلت الينا بأخبار الآحاد , فكيف تصح دعوى القطع بتواترها عن القراء , على أن بعض هؤلاء الرواة لم تثبت وثاقته .
الثاني : إن التأمل في الطرق التي أخذ عنها القراء ، يدلنا دلالة قطعية على أن هذه القراءات إنما نُقِلت إليهم بطريق الآحاد .
الثالث : اتصال أسانيد القراءات بالقراء أنفسهم يقطع تواتر الأسانيد حتى لو كان رواتها في جميع الطبقات ممن يمتنع تواطؤهم على الكذب ، فإن كلّ قارئ إنما ينقل قراءته بنفسه .
الرابع : احتجاج كلِّ قارئ من هؤلاء على صحة قراءته ، واحتجاج تابعيه على ذلك أيضًا ، وإعراضه عن قراءة غيره دليل قطعي على أن القراءات تستند إلى اجتهاد القراء وآرائهم ، لأنها لو كانت متواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) , لم يحتج في إثبات صحتها إلى الاستدلال والاحتجاج .
الخامس : إنَّ في إنكار جملة من أعلام المحققين على جملة من القراءات دلالة واضحة على عدم تواترها ، إذ لو كانت متواترة لما صح هذا الإنكار فهذا ابن جرير الطبري أنكر قراءة "عبد الله ابن عامر الدمشقي" ، وطعن في كثير من المواضع في بعض القراءات المذكورة في السبع ، وطعن بعضهم على قراءة "حمزة الكوفي" ، وبعضهم على قراءة "أبي عمرو البصري" ، وبعضهم على قراءة "ابن كثير المكي" . وأن كثيرا من العلماء أنكروا تواتر ما لا يظهر وجهه في اللّغة العربية ، وحكموا بوقوع الخطأ فيه من بعض القراء ( ) .
وهكذا يسوق السَّيد الخوئي الأدلة والحجج على عدم تواتر هذه القراءات ليستقرَّ على ما اجمع عليه الإماميَّة , بأن القرآن واحد نزل من عند الواحد وأنَّ الإختلاف يجيء من الرواة , ثم يذيل حديثه بإنكاره من يكفّر منكر القراءات . يقول : (لنفرض أن القراءات متواترة ، عند الجميع ، فهل يكفر من أنكر تواترها إذا لم تكن من ضروريات الدين ، ثم لنفرض أنها بهذا التواتر الموهوم أصبحت من ضروريات الدين ، فهل يكفر كلّ أحد بإنكارها حتى من لم يثبت عنده ذلك ؟ ! أللهم إن هذه الدعوى جرأة عليك ، وتعد لحدودك، وتفريق لكلمة أهل دينك !)( )
وبالجملة : من أنكر التواتر من الإماميَّة ومن أهل السنَّة خلق كثير بل ربما نسب إلى أكثر قدمائهم تجويز العمل بها وبغيرها لعدم تواترها ويؤيده أن من لا حظ ما في كتب القراءة المشتملة على ذكر القراء السبعة ومن تلمذ عليهم ومن تلمذوا عليه يعلم أنه عن التواتر بمعزل إذ أقصى ما يذكر لكل واحد منهما واحد أو اثنان على أن تواتر الجميع يمنع من استقلال كلّ من هؤلاء بقراءة بحيث يمنع الناس عن القراءة بغيرها ويمنع من أن يغلّط بعضُهم بعضًا في قراءته بل ربما يؤدي ذلك إلى الكفر( ) كما سيأتي بيانه .
ويجدر الاشارة – هنا – الى أن اختلاف العلماء في كون هذه القراءات توقيفية ام غير ذلك كان له الأثر في حجية هذه القراءات من عدمها في الاستدلالات الشرعية والعقديَّة , فذهب جماعة إلى حجية هذه القراءات ، فجوزوا أن يستدل بها على الحكم الشرعي . وذهب آخرون إلى عدم حجية هذه القراءات، فلا يستدل بها على الحكم الشرعي .ويستدلون على ذلك أن كلّ واحد من هؤلاء القراء يحتمل فيه الغلط والاشتباه، ولم يرد دليل من العقل ، ولا من الشرع على وجوب اتباع قارئ منهم بالخصوص، وقد استقل العقل، وحكم الشرع بالمنع عن اتباع غير العلم( ) .
تلك هي الأقوال في تواتر القراءات وعدمها , وهي توضح أنه لا إجماع على تواتر القراءات ولا على عدمه , ومن هنا فلا مضايقة في أن يختار الباحث أيًا من القولين ,إذا قام لديه الدليل على ضرورة أو رجحان الإلتزام به, ولا يكون بذلك مخالفًا للإجماع, ولا لما هو معلوم بالضرورة ( ) .
المبحث الثالث : دعوى النفي والإثبات لتواتر القراءات وعلاقته بالتحريف والتكفير
لا يخفى على الباحثين تأثير القول بتواتر القراءات أو عدمه على العقيدة ويمس هذا الأثر العقدي سلامة النصّ القرآني , فالقائلين بالتواتر يعتقدون – والحالة هذه – ان كلّ القراءات السبع أو العشر مع اتفاقها واختلافها هي صادرة من المولى (عز وجل) , بمعنى أنهم اثبتوا القرآنيّة لها جميعًا , لذا تراهم يعتمدون عليها في كلّ استدلالاتهم التشريعية والعقديَّة , بخلاف القائلين بعدم تواترها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنفوا القرآنيّة لها بل جعلوها اجتهادات واستحسانات تبناها القراء انفسهم وبالتالي لم تكن هذه القراءات لها قيمة تذكر في استدلالاتهم الشرعية والعقديَّة.
ومع هذا البون الشاسع بين المذهبين تولَّد من كلّ منهما تأثير عقدي على مخالفيهم , وفي ما يأتي نجمل القول في تأثير هذين القولين على العقيدة في أمرين :
الأول: القراءات تساوق القول بالتحريف :
يرى أصحاب عدم التواتر أن هذه القراءات ما هي الا نقص أو زيادة في الحروف أو في حركات القرآن الكريم - مع حفظ القرآن وعدم ضياعه - وهذا هو مقتضى التحريف, (والتحريف بهذا المعنى واقع في القرآن قطعًا، فقد أثبتنا فيما تقدم عدم تواتر القراءات، ومعنى هذا أن القرآن المنزل إنما هو مطابق لإحدى القراءات ، وأما غيرها فهو إما زيادة في القرآن وإما نقيصة فيه)( ).
يقول الإمام الخوئي بعد سرده الروايات التي تتحدث عن التحريف – والتي منها ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قوله : ( أصحاب العربية يحرَّفون كلام الله عز وجل عن مواضعه )( ) .
يقول بعد ذلك: ( إنَّ الظاهر من الرواية تفسير التحريف باختلاف القراء وإعمال اجتهاداتهم في القراءات ومرجع ذلك إلى الإختلاف في كيفية القراءة مع التحفظ على جوهر القرآن وأصله, والتحريف بهذا المعنى مما لا ريب في وقوعه ، بناء على ما هو الحق من عدم تواتر القراءات السبع، بل ولا ريب في وقوع هذا التحريف ، بناء على تواتر القراءات السبع أيضًا ، فإن القراءات كثيرة ، وهي مبتنية على اجتهادات ظنية توجب تغيير كيفية القراءة) ( ) .
ويُفهَم من كلام السَّيد الخوئي : أنَّه حمل بعض معاني التحريف, على اختلاف القراء واجتهاداتهم في اختيار القراءة وهذا لا يمسّ جوهر القرآن نفسه لأنه – وكما هو معلوم – ان تواتر القراءات وتواتر القرآن حقيقتان متغايرتان ( ). والثابت ان الذي بأيدينا هو القرآن المنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعينه فلو فرض سقوط شيء منه أو تغير في إعراب أو حرف أو ترتيب وجب أن يكون في أمر لا يؤثر في شيء من أوصافه كالإعجاز و ارتفاع الإختلاف و الهداية و النورية و الذكرية و الهيمنة على سائر الكتب السماوية إلى غير ذلك، و ذلك كآية مكررة ساقطة أو اختلاف في نقطة أو إعراب و نحوها( ) .
يقول العلّامة السَّيد جعفر مرتضى العاملي (حفظه الله) : ( يلاحظ أنَّ القراءات المختلفة المنقولة على انها توقيفية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) , قد اقتضت القراءة بالزيادة لحرف وكلمة وجملة وآية كاملة (...) والقراءة بالنقيصة كذلك, والقراءة بالتبديل لبعض الكلمات, أو الحروف, أو الجمل بغيرها(...)ومن الواضح : أنَّ هذا ضربًا من ضروب التحريف في القرآن , ولا نفهم معنى أن ينزل جبريل ويقول للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الآية الواحدة على الوجوه الكثيرة المختلفة, حسب اختلاف القراء في قراءتها, فيكرر القرآن عليه, وفقًا لتلكم الاختلافات الكثيرة , فان هذا لا يعدو عن أن يكون لعبًا وعبثًا بالقرآن الكريم, ومهزلة من مهازل العقل البشري لا مبرر لها, ولا منطق يساعدها )( ) .
والحق إنَّ فكرة مشروعية تعدد القراءات والقراءة بالمعنى, والأخذ بالمترادف في القرآن, وقراءة القرآن بأي نحو كان , بشرط ان لا تصير آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة( ), وامثال هكذا آراء تسيء إلى قدسية النصّ القرآني, وهذا الأمر يدركه من له أدنى معرفة واعتقاد بإعجاز القرآن الذي لا يتوافق مع هكذا أقوال( ), ومن المعلوم أيضًا ( إنّ طائفة من الأحاديث جاءت ظاهرة في أنّ المسلمين حرّفوا القرآن من جهة المعنى دون اللفظ ، وحملوا آياته على خلاف مراد الله تعالى، وأن طائفة أخرى من الأحاديث جاءت ظاهرة في وقوع التحريف في القرآن نتيجة اختلاف القراءات)( ).
يقول أحد الباحثين- المعاصرين - في هذا الشأن : (إنَّ هذه القراءات جاءت متأخرة عن نزول القرآن , والعجيب في الأمر أن بعضهم ينسب لكل بلد قراءة خاصة به , موجَّهًا ذلك إلى كونه ضرب من التوسعة على المسلمين , وهذا أمر خطير يعود بقائله إلى تحريف القرآن) ( ) .
و لعل هذا هو الداعي الذي جعل المستشرقين يشككون في المصدر التشريعي الأوَّل بل و (لعله المنفذ الوحيد الذي اتّخذه خصوم القرآن منفذا للحديث عن اختلاط مزعوم في النصّ القرآني هو مسألة القراءات القرآنيّة، حيث يتوهم هؤلاء أنها ثغرة في عصمة النصوص، وأن الإقرار بها يستلزم القول بتوهين سلامة النصّ القرآني، ووجود فقرات بشرية من صنع القرّاء ضمن التّنزيل القرآني الحكيم)( ) .
فذهب بعضهم إلى أنّ بعض المسلمين كانوا يعتنون بروح القرآن الكريم , وإن لم يطابق حرفية اللفظ القرآني مما أدى إلى نشأة قراءة القرآن بالمعنى , يقول المستشرق الفرنسي بلاشير( ):(فبالنسبة إلى بعض المؤمنين , لم يكن نص القرآن بحرفه هو المهم , وإنما روحه . ومن هنا ظل اختيار الوجه "الحرف" في القراءات التي تقول على الترادف المحض, أمرًا لا بأس به , ولا يثير الاهتمام , هذه النظرية التي يطلق عليها "القراءة بالمعنى" كانت دون شك من أخطر النظريات إذ كانت تكل تحديد النصّ إلى هوى كلّ انسان)( ) .
ولا يخفى على الباحثين مدى خطورة هذه المسألة على الجانب الإعتقادي في اعجازية القرآن الكريم اذ توعز هذه النظرية القرآن الكريم إلى كونه بشري مُخترَع من بعض القراء . ولقد تتبع الدكتور عبد الصبور شاهين(ت:1431 هــ) قول المستشرق بلاشير ورأى أنَّ لهذه النظرية وجهين :
الوجه الأوَّل : يشير فيه صاحبه إلى ان بعض الاوجه من القراءات ناشيء عن تصرفات شخصية لعناصر غير عربية , فإذا صح ذلك كان أقوى ما يدعم شكنا في صحة هذه الوجوه المنسوبة إلى الصحابة أو التابعين وغيرهم.
الوجه الثاني : زعم فيه أن طائفة منها ناشئة "يعني مخترعة " على أساس المصحف العثماني , مقصود به أيضًا إلقاء الشك على قيمة القراءات الصحيحة المختلفة , الموافقة للرسم العثماني , ومن ثم الشك في قيمة الرسم العثماني ذاته , من حيث هو مقياس لصحة القراءة من المقاييس الثلاثة ( ) .
وتجدر الاشارة هنا الى أنَّه لم يكن بلاشير أوَّل من ألقى بهذه الشبهة, فقد سبقه إليها المستشرق إليهودي جولدزيهر( ) , الذي ادعى أنه مالم يحصل اختلاف أساس في معنى الألفاظ , فالمعمول عليه في المرتبة الأولى هو المعنى الذي يستنبط من النصّ , وهو رأي ينتهي إلى القول بجواز قراءة النصّ المطابق للمعنى , وإن لم يطابق حرفية اللفظ ( ) .
والخلاصة : إنَّ القول بتوقيفية القراءات وأنها متواترة وصولًا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن جبريل كان ينزل ويقول للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الآية الواحدة على الوجوه الكثيرة المختلفة فيكرر القرآن عليه, وفقًا لتلكم الاختلافات الكثيرة كلّ ذلك يعده البعض – وخصوصًا من يرى عدم توقيفية هذه القراءات كما مرَّ آنفًا - ضربًا من ضروب التحريف سواء بالزيادة أو النقصان مع مراعاة عدم تأثر مثل هذه القراءات بأصل تواتر القرآن الذي اتفق أكثر العلماء بأن حقيقة تواتر أصل القرآن وتواتر هذه القراءات حقيقتان متغايرتان , وبالتالي لا يمكن الابتعاد عن هذه الشبهة الا بالرجوع إلى ما أصّله أئمة أهل البيت (عليهم السلام) – وكما مرّ بيانه – بأنَّ القرآن واحد نزل من عند الواحد والاختلاف يجيء من الرواة . وأخيرًا يتبين مدى تأثر مسألة تواتر القراءات بالعقيدة وهو ما يريده البحث .
ثانيًا : دعوى التواتر وعلاقتها بالتكفير :
إنَّ هذه العلاقة جدُ خطيرة لما يترتب على القول بالتكفير من سفك للدماء وهتك للأعراض وغير ذلك, ثم إنني – وبحسب اطّلاعي المتواضع – لم أجد أحدًا ممن أنكر التواتر قد أوصل الأمر إلى حد التفسيق والتكفير لمخالفيهم, بخلاف بعض القائلين بتواتر القراءات القرآنيّة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد أنكروا على مخالفيهم أشدَّ الإنكار وجعلوا ذلك من الدين بالضرورة, وهذا ما سوّغ لبعضهم (في الإشادة بالقراءات السبع ليقول من زعم أن القراءات السبع لا يلزم فيها التواتر فقوله كفر لأنه يؤدي إلى عدم تواتر القرآن جملة)( ) .
ومن أشهر هؤلاء مفتي البلاد الأندلسية "أبو سعيد الأندلسي الغرناطي" (ت: 782 هـ)( ) الذي الّفَ رسالةً أسماها " فتح الباب ورفع الحجاب بتعقيب ما وقع في تواتر القرآن من السؤال والجواب " وقد تحمس لرأيه هذا كثيرًا وألَّف هذه الرسالة الكبيرة في تأييد مذهبه والرد على من رد عليه( ) .
قال أبو سعيد : (إنَّ تواتر القرآن ضروري في الدين, وعمدة المسلمين, وأنه لا يصح تواتره في نفسه الا بتواتر قراءته )( ).
ويلاحظ من كلام أبي سعيد أنَّه جعل تواتر القرآن والقراءات حقيقة واحدة , وبنى على هذا التصور حكمه الشديد, غير ان المشهور عند كبار العلماء انهما حقيقتان متغايرتان – كما بينا ذلك سابقًا- , فتكفيره من يقول بعدم التواتر سجل عليه ردودًا و استغرابات من كبار العلماء( ), منهم على سبيل المثال لا الحصر, السَّيد الخوئي فيقول متعجبًا ومستغربًا من جرأة أبي سعيد في هذا القول :(وأعجب من جميع ذلك أن يحكم مفتي الديار الأندلسية أبو سعيد بكفر من أنكر تواترها ... لنفرض أن القراءات متواترة عند الجميع، فهل يكَفَّر من أنكر تواترها إذا لم تكن من ضروريات الدين ثم لنفرض إنها بهذا التواتر الموهوم, أصبحت من ضروريات الدين, فهل يكفر كلّ أحد بإنكارها حتى من لم يثبت عنده ذلك ؟! اللهم إنَّ هذه الدعوى جرأة عليك , وتعدٍّ لحدودك وتفريق لكلمة أهل دينك !)( ).
واشترط ابن تيمية الحرّاني (ت: 728هــ) في تكفير من ينكر التواتر بقيام الحجة عليه وخلافه لم يصل القائل بنفي التواتر إلى درجة التكفير. يقول ابن تيمية بعد ذكره اختلافات بعض السلف في إنكار بعض القراءات المشهورة : (وكذلك بعض السلف أنكر بعضهم حروفًا من القرآن(...) وبعضهم كان حذف المعوذتين، وآخر يكتب سورة القنوت، وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر، ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفّروا، وإن كان يكفّر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر)( ) .
ومن أهل هذا الفن – القراءات – من صرَّح بكون التواتر من الضروريات الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمَّد المعروف بالبناء, يقول : (إنَّ القراءات العشر متواترة ومعلومة من الدين بالضرورة , وإنَّها منزلة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان السبع متواترة اتفاقًا وكذا الثلاثة على الاصح وهو الذي تلقيناه من عامة شيوخنا )( ) .
ومن الجدير بالذكر : أنَّ مجرد الترجيح بين هذه القراءات المشهورة - عند القائلين بالتواتر - يستوجب الفسق وربما التكفير كما ذهب إلى ذلك فخر الدين الرَّازي(ت:606هــ) في اشكاله على القول بالتواتر فيقول ما لفظه : (هذه القراءات المشهورة أما أن تكون منقولة بالنقل المتواتر أو لا تكون ، فإن كان الأوَّل فحينئذٍ قد ثبت بالنقل المتواتر أن الله تعالى قد خير المكلفين بين هذه القراءات وسوى بينها في الجواز، وإذا كان كذلك كان ترجيح بعضها على البعض واقعًا على خلاف الحكم الثابت بالتواتر، فوجب أن يكون الذاهبون إلى ترجيح البعض على البعض مستوجبين للتفسيق إن لم يلزمهم التكفير)( ) .
ومن خلال الإنعام في النظر وجد الباحث أن هؤلاء الذين صرحوا بالتكفير والذين لم يصرحوا – أي الذين اعتقدوا أن التواتر من الضروريات الدينية - ان المسوغ الرئيس لهم هو الاعتقاد أن القول بالتواتر هو من الضروريات الدينية التي تصل إلى تكفير من لا يعتقد بها وينفيها . حتى نصل إلى حقيقة كلامهم وهل هو مجمع عليه ام لا ؟ لا بد من التعرف أولًا على معنى الضرورة الدينية لنرتب بعدها الأثر .
مصطلح الضرورة الدينية :
اشتُهِر بين العلماء مصطلح " الضرورة الدينية ", والذي يرى بعضهم أنَّ إنكارها ضابطة للحكم بالكفر, لذا عُرِّفت بأنها (المعلوم من أدلة ديننا, علمًا يشبه الضروريّ الذي لا يحتاج إلى نظر واستدلال , بحيث استوى في معرفته العامة والخاصّة )( ) . وعرَّفها آخر بأنها : (ما يعرف بالبداهة أنَّه من أجزاء الدين, بحيث لو سئل عنه كلّ أحد من أهل الدين لأجاب بأنه منه على وجه الجزم واليقين , الا من كان جديد الإِسلام , أو بعيد الدار من المسلمين)( ) .
وعلى هذا فكل حكم إعتقادي أو عملي في الإِسلام لا حاجة لنا في إثبات كونه من الإِسلام إلى دليل, فهو ضروري نظير الصلاة ( ) . واذا فهمنا هذا فكفر من كان منكرًا ضروريًّا من ضروريات الدين (لا خلاف ظاهر فيه, بل ظاهر جماعة من الأعيان كونه من المسلَّمات )( ) .
ثم إنَّ إنكار ضرورة الدين على أنَّها ضابطة للحكم بالكفر ينطلق من أحد الامرين ( ) :
الأوَّل : أن يُراد من إنكار الضرورة الدينية خصوص الإنكار الذي يرجع إلى إنكار الرسالة, فما لا يرجع إلى إنكار رسالة الإِسلام لا يكون سببًا موجبًا بالكفر.
الثاني : أن يرادَ كون إنكار الضرورة الدينية سببًا مستقلًا للكفر, وإن لم يرجع إلى إنكار الرسالة و(لا دليل على أنَ إنكار الضرورة الدينية سبب مستقل للحكم بالكفر , ليضاف إلى محورية التوحيد والرسالة في كون عدم الإِيمان بهما أو إنكارهما يؤدي إلى الحكم بالكفر)( )
وعليه فإنَّ إنكار الضرورة الدينية إن أُريد منه ما يرجع إلى إنكار الرسالة فهو ليس ضابطة مستقلة , وان أُريد كونه ضابطة مستقلة , فإنَّ النصوص لا تفيد ذلك , بل بعضها تخرج غير الجاحد من دائرة الكفر( ) .
ثم إنَّ الطريق لمعرفة مصداق ضروري الدين ينحصر بأمرين :
الأوَّل : النصّ الديني : سواء أكان قرآنًا أم سنَّة فإذا قال لنا النصّ الديني : إنَّ الأمر الفلاني من أركان الدين أو أجزائه الأساسية أو دعائمه أو قواعده وما شابه هذه التعابير, ثبت عند ذلك أنه من ضروريات الدين .
الثاني : اتفاق أو إجماع المسلمين على كون أمرٍ ما من أركان أو أجزاء أو دعائم أو قواعد دينهم, فإنه على هذه الحالة حتى لو لم يوجد نص ديني يثبت هذه الحقيقة , فإنَّ إجماع المسلمين يكفي في إثبات كون ذلك الأمر من ضروريات الدين الإِسلامي( ) .
ثم بعد هذا : هل ينكر منفي التواتر أصل الرسالة المحمَّدية ! وهل استند القائلون بالضرورة الدينية إلى أصل قرآنيّ أم حديثيّ - حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - وهل أنَّ القول بالتواتر مجمع عليه حتى يفضي إلى كونه من الضروريات . وأخيرًا (وفي مثل هذه الحالة لا يُحكم عليه بالكفر لعدم تحقق إنكار الرسالة وتكذيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقه أو حتى عدم الإلتزام الإجمالي بالرسالة هنا )( ).
ولو دققنا النظر في أصل هذه الدعوى يتحصل لدينا أنَّ الذين يُكفِّرون القائلين بعدم التواتر إنما يُكفِّرون الناس بما تؤول إليه أقوالهم وما تستلزمه من أقوال مستقبحة يكفَّر قائلها ومعتقدها, (والتكفير باللازم يؤدي إلى شناعة لا حدَّ لها، إذ يستلزم تبادل التكفير بين المسلمين، حتى لا تبقى طائفة إلا وهي تُكفِّر الأخرى المخالفة لها، بما تراه لازمًا لقولها، وهذا باب لفساد عريض)( ) . لذا استقبح العلماء التكفير باللازم، واعتبروه ضربًا من الجهل ورِقَّة الدين . وأما من أراد السلامة في دينه والبراءة من الولوغ في ظلم الآخرين فإنه لا ينسب إلى الآخرين إلا صريح قولهم، ولا يحاسبهم بما تؤول إليه أقوالهم ، فهذا فعل أهل البدع لا الحق والرشاد( ) .
ومسألة التكفير جدُّ خطيرة ولا تخفى الأحاديث النبوية المستفيضة التي تحرِّم أن يكفّر المسلم من دون علم بيّن تحريمًا غليظًا نعرض قسمًا يسيرًا منها :
1. روى محمد بن إسماعيل البخاري (ت: 256هـ) بسنده عن النبي محمَّد (صلى الله عليه وآله وسلم) : (إذا قال الرجل لأخيه : يا كافر , فقد باء به أحدهما)( ) ويروي البخاري نفسه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديثًا يفسر الرواية السابقة وهو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) :( إذا قال للآخر : كافر ، فقد كفر أحدهما ، إن كان الذي قال له كافرًا فقد صدق، وإن لم يكن كما قال له فقد باء الذي قال له بالكفر)( ) .
2. روى الصدوق بسنده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :( إذا قال المؤمن لأخيه : أفّ, انقطع ما بينهما , فإذا قال له : أنت كافر كفر أحدهما )( ) .
والخلاصة : إنَّ مسألة تواتر القراءات هي مسألة خلافية ولا إجماع على تواتر القراءات ولا عدمه , لكن هذه المسألة لم تبقى حبيسة هذا الخلاف بل كان أثرها جليّ على العقيدة , فكفَّر جماعة من القائلين بالتواتر على مخالفيهم وجعلوا قولهم بالتواتر ضرورة من ضروريات الدين الحنيف وأنت خبير بما يؤول إليه القول بالتكفير من خراب في الحرث والنسل . وبالضدِّ من ذلك فقد مال بعض منكري التواتر إلى كون هذه القراءات هي ضربٌ من ضروب التحريف والتي لا تؤثر على تواتر أصل القرآن لأنَّ القراءات والقرآن حقيقتان متغايرتان . وأخيرًا يتوضح لدى القارئ أثر (تواتر القراءات) على العقيدة .
الخاتمة وأهم نتائج البحث

1. ظهر للبحث اختلاف العلماء قديمًا وحديثًا في القول بتواتر القراءات القرآنية, فالإماميَّة أجمعوا على عدم تواتر هذه القراءات - الا من شذَّ - وأنها أخبار آحاد تنسب إلى اجتهادات رواتها, والقراءات كثيرة وهي مبتنية على اجتهادات ظنية توجب تغيير كيفية القراءة . واستمد الإماميَّة إجماعهم هذا من أحاديث صحيحة وردت عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) تثبت هذه الحقيقة وتؤكدها, أما بقية الفرق والمذاهب فتكاد تجمع على تواتر هذه القراءات وتوقيفيتها عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
2. إنَ خلاف الأمة في تواتر وتوقيف القراءات وعدمها, ولد آثارًا جمَّة لم تختص في الجانب الفقهي فحسب بل تعدى هذا التأثير إلى الجوانب العقدية . فالقائلون بعدم التواتر والتوقيف تحصّل لديهم أنَّ القراءات ضرب من ضروب التحريف - سواء بالزيادة أو النقصان - مع مراعاة عدم تأثر مثل هذه القراءات بأصل تواتر القرآن الذي اتفق أكثر العلماء بأن حقيقة تواتر أصل القرآن وتواتر هذه القراءات حقيقتان متغايرتان وهذا ما عليه جُلّ الإمامية وبعض أهل السنة .
3. وتحصل للبحث كذلك بأنَّ بعض القائلين بتواتر وتوقيف القراءات قد كفَّروا مخالفيهم وجعلوا قولهم بالتَّواتر ضرورة من ضروريات الدين الحنيف, وبالتالي كون إنكار الضرورة الدينية سببًا مستقلًا للكفر !
الهوامش

تحميل الملف المرفق Download Attached File

تحميل الملف من سيرفر شبكة جامعة بابل (Paper Link on Network Server) repository publications

البحث في الموقع

Authors, Titles, Abstracts

Full Text




خيارات العرض والخدمات


وصلات مرتبطة بهذا البحث