بسم الله الرحمن الرحيم
( الدور الايجابي للقاضي في تفسير النصوص وتطبيقها)
ن استقلال القضاء احد أهم ضمانات الحقوق والحريات ، وهو من المبادئ العالمية التي أكدت عليها الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان،واستجابت لها القوانين الوطنية ومنها القانون العراقي كما يظهر ذلك من خلال المادة (87) من دستور العراق الدائم لعام 2005 التي أكدت على استقلال القضاء وكذلك المادة (88) من الدستور التي أكدت على استقلال القضاة في قضائهم حيث نصت على ( القضاة مستقلون ، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة ) ، أن هذه الاستقلالية تمنح القاضي حرية التحري عن الأدلة والوقائع التي تفيد الحقيقة على نحو يحقق العدالة ، وهو عمل يحتاج إلى أن يضطلع القاضي بدور اكبر من أن يتحدد بمبدأ حرفية النصوص حيث البحث عن روحها من خلال استنطاقها وتطويعها لتخدم متغيرات الواقع محاولاً أن يبعث فيها استمرارية الحياة، ويجعلها أوسع من أن تكون نصوص جامدة تستعمل استعمالاً محدوداً أو نطبق تطبيقاً ميكانيكاً [1]،بعد أن نعلم أن المشرع منح القاضي سلطة تقديرية في كثير من المواضع والمسائل وما على القاضي أن يأخذ المبادرة فيأتي هنا دوره الايجابي في فهم وتفسير النصوص ثم تطبيقها، حيث أن الفهم الصحيح للنصوص يؤدي في الغالب إلى تطبيق صحيح لها ، كما أن هذا الدور يتطور كلما أتاح المشرع فرص أكثر للقضاء لممارسة ولايته ، ولقد كان المشرع العراقي مع هذا التوجه حيث أتاح للقضاء أن ينظر في جميع القرارات والأوامر التي تصدرها الإدارة عن طريق مؤسسات الدولة وقد أكدت ذلك المادة (100) من الدستور التي نصت على (يحظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار أداري من الطعن ) وهذا يعني أن الدستور سمح للمتضررين من قرارات الإدارة الطعن بها أمام جهة أخرى إلا وهي القضاء [2]، حيث لا يمكن أن تجتمع في الإدارة صفتي الخصم والحكم ، ولعل من بين القرارات التي تصدر عن الإدارة قرارات وزير الداخلية المتعلقة بمنح أو سحب الجنسية حيث لم يكن بالإمكان قبل عام 2003 الطعن بها إمام القضاء أنما كان الطعن بها يكون أمام رئيس الجمهورية بحسب قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم 413 لعام 1975 ،وبعد تشكيل مجلس الحكم صدر قرارين الاول رقم (111) والثاني رقم (117) بموجبها تم إعادة الولاية العامة للقضاء في قضايا الجنسية، ورفع كل الموانع التي تحول دون ممارسة المحاكم لولايتها العامة في قضايا الجنسية ، وقد جاء الدستور مؤكد ذلك في المادة (18/6) ، كما أكد قانون الجنسية العراقية رقم 26 لسنة 2006 على ذلك ومنح القضاء الإداري والمحكمة الاتحادية النظر في قضايا الجنسية في المادتين (19و20) من القانون ، وهذا ما يوسع من الدور الايجابي للقاضي في مثل هكذا قضايا ، وبذلك ستتوسع المساحة التي يتحرك فيها القضاء وتزداد فرص ممارسته لولايته
أن اضطلاع القاضي بدور ايجابي سيرفع من كفاءة النصوص ،كما انه سيسد النقص التشريعي في ظل غموض النص أو غيابه ، والقاضي وهو في سبيل ذلك الدور يعمد إلى طريق الاستنتاج والاستنباط واستعمال طرق القياس واعتماد أساليب التفسير ، وجمع الأدلة والتحري عنها لاستكمال قناعته في ما هو كائن من وقائع لإصدار الحكم ، وبذلك سيرتفع القاضي بالتطبيق السليم للنصوص في ظل وجوده أو البحث عن بديل أفضل عنها في ظل غيابها وقد منحت هذه الفرصة للقاضي المادة(1/ 1) من القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 والتي نصت على ( تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفضها أو في فحوها ) كما جاءت الفقرة (2) من نفس المادة بالنص على ( فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكمت المحكمة بمقتضى العرف فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية الأكثر ملائمة لنصوص هذا القانون دون التقيد بمذهب معين فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ العدالة ) وهذا يعني أن على القاضي أن لا يرفض الحكم في الدعوى بحجة غياب النص في جميع الأحوال لوجود بدائل متعددة عن النص تنتهي بقواعد العدالة ، وبذلك سيلتقي المشرع والقاضي عند المنطقة التي يسعى كل منهما للوصول أليها إلا وهي العدالة من خلال استعمال القاضي للقواعد الأصلية في الحكم ( النصوص ) أو الاحتياطية على التفصيل الوارد في الفقرة(2) أعلاه ، ومن العوامل المساعد للدور الايجابي للقاضي هو عدم اعتماد القضاء العربي والعراقي بشكل خاص لأسلوب السوابق القضائية بشكل مستقر وبالمقابل اعتماد أسلوب الاجتهاد القضائي الحر
ويظهر الدور الايجابي للقاضي في تفسير وتطبيق القوانين الإجرائية والقوانين الموضوعية ، ففي أطار القوانين الأولى نجد هذا الدور واضح في الإجراءات الجزائية ، حيث منح المشرع العراقي في قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 القاضي سلطة مطلقة كما يظهر ذلك مثلاً من خلال قراءة المادتين ( 215- 217) كما أتاح المشرع للقاضي أن يعمد إلى تجزئة أقرار المتهم وذلك في المادة (219) كما أكدت المادة ( 213 /ا) من القانون أعلاه على الجواز للمحكمة أن تحكم بناء على قناعتها حيث نصت على ( تحكم المحكمة في الدعوى بناء على اقتناعها الذي تكون لديها من الأدلة المقدمة في أي دور من ادوار التحقيق والمحاكمة ...) كما نصت الفقرة (ج) من المادة أعلاه على ( للمحكمة أن تأخذ بالإقرار وحده أذا اطمأنت إليه ولم يثبت كذبه بدليل أخر ) والى نفس المعنى ذهبت باقي التشريعات العربية ومنها التشريع التونسي والمصري والمغربي [3]، وفي أطار قانون المرافعات العراقي رقم 83 لسنة 1969 أكدت الدور الايجابي المادة ( 157/2) التي نصت على ( يجوز للمحكمة فتح باب المرافعة مجدداً أذا ظهر ما يستوجب ذلك على أن تدون ما يبرر هذا القرار ) ، كما خول قانون الإثبات العراقي رقم 107 لسنة 1979 المعدل في المادة ( 102 /أولا ) القاضي أن يعتمد القرائن التي يستنبطها حيث نصت على ( القرينة القضائية هي استنباط أمر غير ثابت من أمر ثابت لديه في الدعوى المنظورة ) كما نصت الفقرة ثانياً من نفس المادة على( للقاضي استنباط كل قرينة لم يقررها القانون وذلك في نطاق ما يجوز إثباته بالشهادة) وفي هذا السياق يقتضي أن تكون هناك علاقة قوية بين الأمر الثابت والأمر الغير ثابت لاستنباط القرينة القضائية[4] كما أتاحت المادة (104) من القانون أعلاه للقاضي مواكبة التطور العلمي حيث نصت على ( للقاضي أن يستفيد من وسائل التقدم العلمي في استنباط القرائن القضائية ) ، وبحسب هذا النص يستطيع القاضي أن يطوع بعض القواعد المخصصة لحكم موضوع ما باتجاه موضوع آخر، ومنها قواعد الاختصاص القضائي الدولي المخصصة أصلا لحكم المنازعات التقليدية باتجاه أعمالها في محيط المنازعات الناشئة عن المعاملات الالكترونية، وبذلك سيساهم القاضي في سد النقص التشريعي في هذه المسائل لغياب تنظيم تشريعي للمعاملات الالكترونية والمنازعات الناشئة عنها في العراق
أما في أطار القوانين الثانية ( الموضوعية ) فتظهر قراءة نصوص الدستور أنها أوردت الدور الايجابي للقاضي من خلال نص المادة (193) التي بينت اختصاصات المحكمة الاتحادية ،وكان من بينها اختصاص المحكمة في تفسير نصوص الدستور ، وهو أهم دور للمحكمة من خلاله تتمكن من تطوير نصوص الدستور، ورفع مستوى كفاءتها ، وفي أطار القانون المدني نجد أن المشرع منح فرصة اضطلاع القاضي بدوره الايجابي من خلال المادة (30) التي نصت على ( يتبع في كل ما لم يرد بشأنه نص خاص من أحوال تنازع القوانين السابقة مبادئ القانون الدولي الخاص الأكثر شيوعاً ) وبذلك يتمكن القاضي من خلال هذا النص من تتبع المبادئ المستقر عليها عالميا في أطار القانون الدولي الخاص باتجاه أعمالها على العلاقات ذات العنصر الدولي المعروضة أمامه والتي تفتقر لغطاء تشريعي لتنظيمها، وتسوية النزاع المثار بشأنها
وفي ضوء ما تقدم يظهر الدور الايجابي المتعدد للقاضي بتعدد القوانين التي يضطلع بتفسيرها و بتطبيقها ، إضافة إلى أن مهمة القاضي في ذلك تساعد على تحريك النصوص الثابتة باتجاه واقع متغير، وهو ما يحقق ما يصطلح عليه باندماج القانون بالواقع ، حيث يصعب الفصل بينهما نظراُ للتداخل بينها لأنهما وجهان لعملة واحدة [5]
[1] - د. صالح محسوب – السوابق القضائية ودورها في الاستقرار القضائي – بحث منشور في مجلة القضاء العدد (4،3،2 ،1) - 1999 – ص 33 وما بعدها
[2] - ينظر بهذا المعنى د. مازن ليلو – القضاء الإداري – منشورات جامعة دهوك – 2010 – ص227
[3] - د. صالح محسوب – المصدر السابق – ص30
[4] - غسان ألوسواسي – القرائن في الإثبات الجنائي – بحث منشور في مجلة القضاء – العدد الاول والثاني – السنة الخامسة والخمسون – 2001 – ص 47
[5] - د.منصور حاتم ود.هادي حسين – الأثر الإجرائي للواقع والقانون في تحديد وصف محكمة التمييز – بحث منشور في مجلة المحقق الحلي – كلية القانون – جامعة بابل - العدد الاول- السنة الأولى – 2009 – ص 6-7